السبت، 21 أغسطس 2010

التفكير العلمي , والخرافي ...!



في مقالتها في "الوطن" العدد 3033 بتاريخ 18 يناير 2009 قامت الكاتبة مها الحجيلان بمناقشة موضوع "الطب والدين"، وتأكيد الارتباط بين السبب والنتيجة، والفعل ورد الفعل، وهذه من سمات المنهج المنطقي والديني على السواء، بحيث إنه لا يفصل السبب عن مسببه، ومحاولة البحث عن تفسير مثيولوجي، غير منطقي لذلك، فالله سبحانه وتعالى حينما سأله إبراهيم "كيف" _ لا "هل" _ يحيي الموتى، أمره الله أن يذبح الطير مع قدرة الله سبحانه على أن يفعل ذلك، ولا سيما أنه في موقف بيان المعجزة، وكذلك أمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، وأمر مريم أن تهز بجذع النخلة، مع أن معجزة فلق البحر، وأن تلد امرأة بلا زوج، لا تقارن بضرب البحر بالعصا، وهز جذع النخلة، وعدم تأثير هذين الفعلين على حدوث المعجزة، وإنما يبين الله وجوب الأخذ بالأسباب، حتى إن كان المخاطب مؤيداًًً بالمعجزة من الله، فكيف بمن هم دونه؟ وفي معركة أحد، حينما أخل المسلمون بشرط من شروط النصر هزموا، ولم ينفعهم وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا نبل وسمو هدفهم، لأن الله أمر بأخذ الأسباب: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".
وهكذا خلق الله الكون على سنن دقيقة, ونواميس صارمة لا تنخرم تبعاً لأماني الكسالى والعاجزين، فالله أودع الأسباب والسنن في هذا العالم دلالة على حكمته وإتقانه وابتلاء للناس في أن يبحثوا عن هذه السنن ويوظفوها في عمارة الأرض التي استخلفهم الله فيها، والسمو بالإنسان الذي كرمه الله، لا أن يبقى الإنسان حبيس الدجل والشعوذة والخرافة، منتظراً من السماء أن تمطر عليه ذهباً وفضة.
والقرآن الكريم لا يستفيد منه من وقف على رسمه دون معناه، فالهداية القرآنية هي بمضامين الآيات، لا في إيقاع حروفها، ورسمها، ومن يقرأ مضامين الآيات، يجد أنها تأمر بالأخذ بالأسباب، بل وتحيل الإنسان إلى النظر في اتساق الأسباب وانتظام العالم كدلالة على التوحيد، ووجود الخالق، وبذلك يتبين، أن المعالجة بالقرآن هي معالجة بمضمونه وهو الأخذ بالسبب، وعلى قارئه أن يتخذ سبب الشفاء الذي وجهه القرآن إليه، وهو الذهاب إلى من يعالجه، الذي قدر الله أن يكون على علم بالمرض وعلاجه.
بيد أن مشكلة البعض أنهم يظنون أن للفظ دلالة غير المعنى، فمثلاً يقال فلان معه "المقطوع"، وحينما تسأله مستفسراً تقصد السرطان؟ يقول أعوذ بالله لا تقل اسمه! مع العلم أن دلالة المعنى واحدة "للمقطوع" والسرطان! وهذه من سمات العقل البدائي، الذي يتمحور حول ظاهر الرسم وإيقاع المفردة، ويتصور أن اللفظ مغاير لدلالة معناه، لا نافذ وفاهم لمضمونه ومبادئه.
ومن أمثلة التفكير الخرافي ما ذكره أحد المشاركين في الندوة _التي ذكرتها الأخت مها في مقالها_ في ندوة أخرى له، فقد ذكر أن ثمة طبيبا وفقه الله، وأصبح ناجحاً في مجال عمله، والسبب هو أنه حينما أراد الدراسة في الخارج، وفي أحد المستشفيات الأمريكية مدت امرأة يدها لتصافحه، فرفض مصافحتها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم _كما يزعم هذا الشيخ_ فلم يُقبل في البرنامج الطبي الأمريكي، وعاد للسعودية وأصبح طبيباً ناجحاً، لا لأنه اتخذ أسباب النجاح، من تفوق واجتهاد وإنما لأنه امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بيد أن المفاجأة تظهر، إذا علمنا أن الحديث الذي استدل به الطبيب وشيخه على تحريم المصافحة لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلفظ "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" وفي سنده شداد بن سعيد وهو ضعيف، وخالفه من هو أوثق منه بشير بن عقبة ورواه موقوفاً على معقل بن يسار، فالحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم على فرض صحته فـ"المس" في الحديث لا يعني المصافحة، بل يعني الجماع، قال تعالى "قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ"، وقال جل شأنه "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن"، وقوله جل شأنه "أو لامستم النساء" وغيره كثير، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك، روى البخاري في كتاب الأدب باب الكبر عن أنس بن مالك قال "كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت"، وعارض البعض هذا الحديث بحديث عائشة رضي الله عنها (ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط إلا امرأة يملكها)، وأمام هذا التعارض يقدم المثبت (مصافحة النبي) على المنفي (عدم مصافحته) كما هو متقرر في علم الأصول، لأنها أخبار، لا أوامر بحيث يقدم الحاظِر على المبيح!
وبعد ذلك يتبين، أن الطبيب ترك فعلاً مباحاً، ومن يترك المباح لا يُثَبْ على تركه، بل يمكن أن يقال إنه تعبد الله فيما لم يصح فيه دليل، والأصل في العبادات التحريم إلا بدليل صحيح صريح، وقد تبين عدم صحة الحديث _ موضع الشاهد من كلام الشيخ _ وعدم صراحته، وبذلك يكون التفسير المنطقي هو التفسير الشرعي لنجاح الطبيب وهو أنه أخذ بأسباب النجاح، ومن أخذ بها وفقه الله سواء صافح أم لم يصافح!
بل إن الأمم الكافرة تقدمت حينما أخذت بالأسباب، وغيرها أمم بقيت متخلفة لعدم أخذها بالأسباب، بغض النظر عن دينها!