الأربعاء، 2 فبراير 2011

هل يحق للطبيب الحديث في الدين ؟!

من أبرز الاحتجاجات التي يواجهها من يتصدى لنقد الخطاب الديني , هو الاتهام بعدم ( التخصص ) . ومحاولة فرض ما أسميه : ( استبداد المتخصص ) .. بحيث أن المتخصص فقط , لأنه متخصص هو حجة . بغض النظر عن الاتساق المنطقي والعلمي لكلامه , وإنما على الشخص أن يكون بين يدي المختص , كالميت بين يدي مغسله ! .. وهذا كلام في غاية التهافت , فليس (كل) ما يقوله المتخصص صحيح , وليس (كل) ما يقوله غير المتخصص خطأ , وإنما المعيار في قبول كلام المتخصص وغيره , هو في مدى منطقية وواقعية ما يقول , فلو أن طبيباً متفذلكاً قال لمريض مصاب بالسكر , عليك الإكثار من السكر , من باب : ( وداواني بما كانت هي الداء ) , فمن الحماقة أن يأخذ المريض هذا الكلام , فقط لأنه من مختص ! ,وقضية المختص تذكرني بقضية ( الخطط المدروسة ) للمدرب ناصر الجوهر ,! ..فكل عاقل لديه حس نقدي , ومقدمات بسيطة , يستطيع من خلالها محاكمة ما يقال له , بغض النظر عن قيمة القائل وتخصصه . طبعاً مسألة "التخصص" لا تثار إلا إذا كان الشخص ناقداً , أما إذا كان متبعاً للنسق الديني السائد فلا تثار قضية التخصص , ولهذا نجد أطباء يوصفون بالمشايخ , فقط لأنهم يوافقون الاتجاه الديني العام . ولا تثار مسألة التخصص , خالد الجبير نموذجاً وهذا ما يسمى في المنطق ( مغالطة قطف الكرز Cherry- picking fallacy ) .. هذه الحجة هي في غاية الضعف , ولا يمكن أن تثبت أمام النقد ..ولعلنا نبدأ في نقد السؤال المحوري والذي قيل لي مراراً وتكراراً : أنت كطبيب هل ترضى أن يأتي رجل دين ويتكلم في الطب ؟! أذن كيف تتكلم في الدين ؟!

الجواب : مع علمي أن رجال الدين يتحدثون في الطب وغيره , وفي كل شيء , بارك الله بعلمهم , إلا أن الجواب : نعم ..ما الذي يمنع ؟! لو كان هناك رجل دين مهتم بمرض معين أو بدواء كــ"البنادول/البراسيتامول" وقرأ النشرة المرفقة معه , وقام بحفظها , ثم بحث في مصادر كثيرة , وقرأ عن "البنادول" ألن يكون أعلم من الطبيب وحتى الصيدلي في البنادول ؟! فالطبيب سيعرف أهم المضاعفات , والجرعات , ولمن توصف .. لكن لن يعرف كل شيء يختص بهذا الدواء , كحال هذا الرجل , الذي بذل الكثير من الجهد في معرفة هذا العلاج .. وبالتالي سيكون معيارنا في الحكم على صحة معلومات هذا الرجل , لا على تخصصه , وإنما على صحة هذه المعلومات التي قام بحفظها كاملة من النشرة المرفقة ... ومن القفز على الحقائق , وصفه بأنه جاهل في هذا الدواء , وهو يعرف كل شيء عنه .

من ناحية أخرى , لا يجب على الفقيه أن يعرف في الطب , بينما يجب على الطبيب أن يعرف أمر دينه , لا سيما أن لديه من الوعي ومن الفهم , ومن القدرة البحثية والنقدية , ما يؤهله لذلك ..

النقطة الثانية : جاء في الحديث الصحيح : ( بلغوا عني ولو آية ) , والآية من الدين , إذ الدين هو مجموع آياته ,ومن تكلم في آية فقد تكلم في الدين , و عليه , من يرى الاحتجاج بالتخصص , عليه أن يرد على الرسول قائلا : لا يا رسول الله لا يحق لغير المتخصص في الفقه أن يتحدث في الدين وآياته , ولا حتى بآية واحدة , لأنها بغض النظر عن كونها آية أو أكثر , إلا أنها من الدين , والدين لا يتحدث عنه إلا متخصص ..! هذا مع أن هنا مصادرة على المطلوب , لأني لا اعتبر من لا يعرف المنطق فقيه بحال , ولكن هذا من باب التسليم بدعوى التخصص .

النقطة الثالثة : جاء في الحديث الصحيح : ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه , ورب حامل فقه و هو غير فقيه ) , وهذا الحديث الصحيح _ بل عده البعض متواتراً _ يسقط نظرية التخصص , وعلى المعارض أن يقول للنبي : كلامك غير صحيح , فلا يحمل الفقه إلا متخصص فقيه , ولا يحمل الفقه ألا متخصص , ولا يمكن أن يحمله من ليس بفقيه إلى من هو فقيه ..!

النقطة الرابعة : قصة الهدهد مع النبي سليمان , إذ قال : ( أحطت بما لم تحط به ) , فهذا الهدهد يعلم ما لم يعلمه سليمان النبي الذي حشرت له جنود الأنس والجن , ولم يرد سليمان كلامه وإنما طالبه بالدليل , وبالتالي المتخصص هو من يملك الدليل , ومن لا يملك الدليل لا قيمة لتخصصه حينها ..!

النقطة الخامسة : ماذا تقصد بالتخصص ؟! هل تقصد معرفة أصول الفقه ؟! ..و أصول الفقه قام بتأصيلها الشافعي , وهنا يبرز سؤال مهم : الشافعي قبل أن يكتب أصول الفقه , هل كان فقيها ؟! إذا كان الجواب : نعم ..كيف وعلم الفقه لم يتشكل بعد ؟! فإن قيل : لا , لم يكن فقهيا , فكيف استطاع أن يؤسس ويؤصل لأصول الفقه ؟! ..أم أن الحكم على فقهه كان لاحقا أما قبل ذلك , فلم يكن يعتد بكلامه لأنه ليس بفقيه .!!

سادساً : من سيرة الرسول نجد أن هناك اعتراضات منطقية من بعض الصحابة سواء في الحرب أو الشأن السياسي وقضايا أخرى, وهذه الاعتراضات ليست نتاج تخصص , وإنما نتاج تفكير سليم وناضج . ولهذا في الحديث الصحيح لما سأل علي هل خُص الصحابة بعلم ؟! قال أنما هو فهم يؤتيه الله من يشاء , لا سيما أن الفقه هو الفهم , أما كونه علم الحلال والحرام فهذا اصطلاح حادث ..

ملحوظة : قد يرد اعتراض على النقطة الأخيرة أن اعتراضات الصحابة في شؤون الحياة وليس في شؤون الدين , وهنا يدخل المعترض في إشكال علماني عويص , وفصل كل مظاهر الحياة , التي تحاكم إلى العقل و تحليله المنطقي , عن قضايا الدين ..!

النقطة السادسة : هي مفارقة منطقية لطيفة فعلتها مع أحد الأصدقاء.قال لي : لا يجوز الحديث في الدين ألا لأهل العلم .قلت له : ماهو دليلك؟! قال : ( فسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون ) .قلت له : أنت الأن تتكلم في الدين وأنت غير مختص .قال لي : لأني أعرف الدليل , قلت أذن العبرة بالدليل لا بالتخصص , ابتسمنا وانتهى الحوار ..

من وجهة نظري أن هذه النقاط أسقطت فكرة أنه لا يحق لغير المتخصص الحديث بالدين , وأن التخصص هو الدليل , من ملك الدليل فهو المختص بمسألته ..

والسلام ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق