الأربعاء، 9 يونيو 2010

نقد ( الإسلام السياسي) ..

هذا نقد لورقة الزميل الفاضل عبدالله الضويان في جماعة فكر , حول ( الإسلام السياسي) ...


وهذه ورقة الزميل

قراءة لأثر الإسلام السياسي على المجتمعات العربية, وتطبيق على المجتمع السعودي.
عبد الله الضويان

أدى التدهور الذي أصاب الأمة الإسلامية في بدايات القرن الماضي ابتداءً من المواجهات العسكرية مع القوى الأوربية الصاعدة ثم تراجع الدولة العثمانية حتى انهيارها ووقوع غالبية الدول الإسلامية تحت الاستعمار, إلى تسرب الشعور بالضعف والتخلف وبرز السؤال الذي بدا ملحاً وواضحاً في تلك المرحلة وهو السؤال عن سبب هذا التخلف وسبيل الخلاص.
"الإسلام هو الحل" إجابة بدأت تتبلور حتى ظهرت حركات ما يسمى بالإسلام السياسي وأخذت على عاتقها تحقيق هذه النظرة والدعوة إليها, ومن خلال هذه الورقة سنحاول قراءة شيء من أثر هذه الحركات على المجتمعات العربية على الصعيد الفكري والسياسي, ونحاول التنقيب عن جذورها الفكرية في إطار المجتمع العربي, ومدى ارتباطها بالإسلام الذي تنتسب إليه, ثم نسلط الضوء أخيراً على مجتمعنا السعودي ومدى تأثره بهذه الموجات وتفاعله معها.

في التاريخ الحديث ظهرت حركات إصلاحية أبرزها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1791-1703) في الجزيرة العربية، والحركة السنوسية (1878-1859) شمال إفريقيا والحركة المهدوية (1898-1881) في السودان، وكان أبرز ما يجمعها هو الحس الديني البحت بعيداً عن الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية.

وفي حقبة المواجهة مع الحداثة كان الاستعمار تجربة حديثة غيرت وعي الأمة بنوعية التحديات التي تواجهها فظهرت حركات إصلاحية يغلب على خطابها الإصلاح الدنيوي ويتركز مشروعها في تشخيص المفاهيم الدينية السائدة والنهوض بالأمة من محنتها فظهرت طروحات من نوع: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، ولعل من أبرز رواد تلك المرحلة جمال الدين الأفغاني.

وامتداداً لهذه المرحلة نشأت حركة الإخوان المسلمين (1928), والجماعة الإسلامية في الهند (1941), وغيرها من الحركات التي يمكن أن يطلق عليها جماعات إسلامية أو حركات الإسلام السياسي.

إن أي حديث عن حركات الإسلام السياسي لابد أن ينطلق من مسلمات تشمل قبول الوصف الذاتي لهذه الحركات بأنها إسلامية, ومن ثم رسم الحدود بينها وبين غيرها من الجماعات المسلمة.
يعرّف الدكتور عبدالوهاب الأفندي هذه الحركات بأنها : تلك الحركات التي تؤمن بشمولية الإسلام لكل نواحي الحياة وتتصدى لقيادة ما تراه جهداً لازماً لتأكيد هذه الشمولية في وجه تراخي المجتمع وتقصير القيادات والمؤثرات السلبية ومكايد الأعداء؛ وهي بهذا تدّعي لنفسها القيادة الأخلاقية للمجتمع.

من نافل القول أن الإسلام واحد، حيث لا يجوز الحديث عن إسلامات متعددة، غير أن استقلاله وتفرده لا ينفي تعدد أفهام المتلقين ولا يلغي حقهم في الاجتهاد في حدود النصوص ذات الدلالة غير القطعية, ومن هذا المنطلق تفرع الفقه إلى مذاهب والجماعة المسلمة إلى تيارات و فرق. إن هذا الغياب للوحدة الفكرية لهو دليل واضح على أننا لا نتعامل مع النصوص بل مع آراء متلقيها.
إننا حينما نجرد هذه الحركات من صفة الناطق الرسمي باسم الدين لا نلغي وصف انتسابها لهذا الدين وإن اختلفت الفهوم وتضاربت الآراء.

الإسلام والسياسة:

إذا تأملنا العقيدة الإسلامية سنجد أن من أبرز سماتها القابلية للبعث والتجديد والإحياء؛ إذ الإسلام نفسه بعثٌ للملة الحنيفية ومصدق لما بين يديه، وفي نصوص القرآن والسنة تأكيد على مفاهيم من شأنها الإبقاء على صفائه وحمايته من الانحراف والاندثار، كالتركيز على العلم والتعلم والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والتوبة ومراجعة النفس وغيرها من المفاهيم التي ضمنت له الحياة في كل الظروف. وهذه الطبيعة الحراكية جعلت له ارتباطاً بالسياسة بدا واضحاً في تاريخه, وهذا يقودنا إلى سؤال مهم حول ماهية هذه العلاقة، هل كانت علاقة موضوعية فرضتها شروط مرحلة تاريخية ما، والشروط التاريخية من شأنها التغير مما ينفي عن هذه العلاقة صف الثبات؟, أم أن العلاقة بينهما علاقة منطقية مفهومية بمعنى أن سياسة أحوال الناس جزء من جوهر الإسلام لا يتأثر بالأحوال والظروف؟
إن تصورنا لهذه العلاقة على نحو سليم يوفر علينا الكثير من العناء في دراسة أثر الإسلام السياسي وسرعة نفاذه إلى وعي الجماهير في العالم العربي.

يذكر الدكتور عبد الوهاب الأفندي في تعليقه على كلام هوغ دييديه في كتابه "الإسلام والمقدس" أن هناك إشكالية جوهرية في كل تناول للشأن الديني يدّعي صفة العلمية؛ وذلك هو افتراض وجود ثنائية مطلقة بين الدنيوي والمقدس ورفض المقولة الشائعة عن تلازم الدين والدنيا في الإسلام، حيث صرّح دييديه بأن لا ترابط بين الديني والدنيوي ولا المقدس و المدنس - حسب تعبيره - بالطريقة نفسها في أوربا و في العالم العربي والإسلامي، لكن هذا الترابط موجود بالضرورة، فإن مجرد تحديد الخير المنفصل أو الذي يحاط بدائرة لأنه قدسي
أو إلهي يعني رسماً للحدود وبالتالي تعيين ما هو خارجها, إن تأسيس المقدس يعني إرساء نظام دنيوي.
وهذا يشير إلى تناقض على مستوى المفاهيم - بحسب الأفندي - حيث يتحدث عن تقابل مطلق مزعوم ثم يعود ليؤكد ترابطاً لا فكاك منه بين الحيز المقدس وما يقع خارجه. ويضيف الأفندي :"على الرغم من تأكيد علماء الاجتماع أن موضوعهم ليس هو محتوى العقيدة بل أثرها الاجتماعي فإن واقع الأمر يشير إلى الخلفية العلمانية بل المناهضة للدين لعلم الاجتماع الحديث؛ فموقف علم الاجتماع من الدين هو موقف الاستغراب من كيفية ظهور الأوهام الدينية وسيادتها والبحث عن تفسير "إكلينيكي" لاستمرارية التمسك بالدين باعتباره ظاهرة مرضية. نشأ من كل هذا أن العلمنة قرين الحداثة وأنها طريق ذو اتجاه واحد فما أن تدخل المجتمعات عالم الحداثة حتى تتجه نحو العلمنة.
ومن هذا المنطلق فإن ظهور ما يسمى بالصحوة الإسلامية يعتبر معضلة يصعب حلها في ظل هذه الافتراضات؛ فهي تناقضها إلى درجة أن التحديث يبدو كما أنه أحدث أثراً عكسياً في المجتمعات الإسلامية التي تعزز التدين فيها مع دخول فضاء الحداثة مما حدا ببعض الباحثين إلى استنتاج أن الإسلام غير قابل للعلمنة.
إذن كل دراسة علمية لابد أن تطرح هذه الفرضيات ما لم تبرهن عليها وأن تترك مواقفها المسبقة جانباً إذا شاءت رصد هذه الظاهرة بموضوعية.

تفسير عودة الإسلام إلى المجال السياسي:

لا يمكن أن نصل إلى تفسير مقنع لعودة الإسلام إلى المجال السياسي وتبوئه مكانته العميقة إلا إذا نظرنا إلى مكونات هذا المجال بكثير من التحليل؛ فالبنية الثقافية الدينية للمجتمعات العربية من أهم خصائصها الاستمرارية, والقدرة على تجديد نفسها وتنشيط فاعليتها، فالعقل الإسلامي يقر بالتطور والتحول ويعتبره ناموساً في الوجود، ويؤكد على مشروعية الاجتهاد وضرورته خارج إطار النصوص القطعية الثابتة التي تمثل جوهراً مطلقاً ذا إلزامية لا محدودة ويفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد في الفروع التي يندرج تحتها ما يتعلق بالمعاملات.
إن فشل التجارب القومية والاشتراكية في تحقيق ما كانت تعد به وعدم قدرتها على منافسة الخطاب الإسلامي تعزيز لهذه النجاحات التي يحققها على المستوى السياسي وبحسب عبد الإله بلقزيز فإن الإسلام السياسي في خطابه يحتكر الواجب في الممكن (الدين في السياسة), والممكن في الواجب (السياسة في الدين)؛ وذلك من خلال استعارته للطهرانية الدينية في السياسة فيبدو خطاباً أخلاقياً على مستوى من العفة, وهو يجسد الواقعية السياسية في صورتها
الجلية على صعيد الدين فيقنع جمهوره أن الإيمان ليس محض عقائد والتزامات مع الخالق فحسب بل فعل إنقاذ لأحكام الدين في الدنيا, يغذي ذلك ويقويه شمولية الفكرة الإسلامية مجال المصالح والمنافع ومجال العلاقة بين المخلوقين. ووجه هذا الاحتكار أن فرص المنافسة معه ضعيفة وباهتة بسبب انقطاع الصلة بين سائر الخطابات السياسية وبين مجال الرمز الديني.
ويضيف محللون مزية أخرى تتعلق ببساطة الخطاب الإسلامي حيث هو امتداد للمدرسة الحنبلية التي جسدتها أفكار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واستعادتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي من أهم سمات خطابها أنه بدوي تبسيطي يتغلغل في الوعي الشعبي بسرعة وأنه استمد بعده الفكري من خلال تفاعل البيئات الحضرية معه (مصر على سبيل المثال).

مما سبق, نرى أن المجال السياسي يتسع أمام حركات الإسلام السياسي مما يقربها من الاختبار الأهم وهو القدرة على المقاربة بين الايدولوجيا والسياسة؛ إذ السياسة كما يقال: "محرقة الايدولوجيا" وذلك ما عبر عنه هيغل بوضوح حين وصف الفكرة بأنها تنحط حينما تكون واقعاً.

مبادئ جوهرية في خطاب الإسلام السياسي:

من خلال قراءة آراء بعض المهتمين بنقد الخطاب الإسلامي، يمكن استخلاص أهم المبادئ التي يسعى هذا الخطاب إلى إرسائها:
1- النص والعقل يسيران في اتجاه واحد، وإذا اشتبه التعارض كان النص أولاً ومن ذلك يتفرع المبدأ الثاني.
2- لا اجتهاد في مقابل النص ،إذ كيف يقوم الاجتهاد الظني مقام النص القطعي.
3- الإسلام دين و دولة, ولا يجوز الفصل بين جانبيه الاعتقادي والعملي المتعلق بسياسة أحوال الناس (تطبيق الشريعة الإسلامية).
4- لا تعارض بين قيام دولة إسلامية وبين الديمقراطية في بعض جوانبها.

سمات صنعت صورة هذا الخطاب ووجوده في المجتمع العربي:

لا يختلف الخطاب السياسي الإسلامي كثيراً في القواعد والمقدمات عن غيره من الخطابات السياسية في العالم العربي؛ فهو خطاب دعوي تبشيري تحريضي، غير أن هناك من السمات ما تبدو أكثر بروزاً لديه:
- هو خطاب تبسيطي يميل إلى التواصل السهل مع جمهوره ويساعده في ذلك رمزيته الدينية التي لا ينافسه فيها غيره، ووقوفه في الغالب موقف المعارضة وذلك يكسبه المصداقية المطلوبة.
- التفاعل مع الحداثة ايجابياً وإن بدا ظاهراً أنه يتعامل مع الحداثة بشيء من الحذر المشوب بالرفض.
-اختياره للصبغة الإسلامية كمنطق خطابي بدلاً من منطق الفعالية المجردة وذلك جعله نافذاً في مجتمع مصطبغ بالصبغة الدينية.

تساؤل: هل يمكن اعتبار حركات الإسلام السياسي من قبيل منظمات المجتمع المدني من حيث كونها تنبثق من إحساس مشترك لدى أعضائها بوجود أزمة أو تقصير في جانب معين؟

صحيح أن منظمات المجتمع المدني من جمعيات حقوق الإنسان أو الجمعيات الطوعية والخيرية قد تعترض على قيم الأغلبية وتضع المنظومة الأخلاقية لمجتمعها على طاولة النقد إلا أنها تتميز بمميزات مهمة بل جوهرية:

- أنها تحتكم لقيم المجتمع السائدة, وتركز على صيانة هذه القيم وتقويم الانحرافات عنها.
- أن دورها يصب في إطار تقوية الأسس التي تقوم عليها هذه المجتمعات وتعضيد بنيتها القيمية ونسيجها الاجتماعي.

وهنا نجد أن حركات الإسلام السياسي ليست على مسافة واحدة من مؤسسات المجتمع المدني؛ فهي تبتعد حين تتبنى هذه الحركات نهجاً ثورياً, وتقترب وربما تتلاشى حين تنحو منحى إصلاحياً يركّز على الإصلاح الفردي والاجتماعي والخدمات الاجتماعية في حدود السقف المتعارف عليه في بلدانها.

أثر حركات الإسلام السياسي على المجتمعات العربية

مما لا شك فيه أن حركات الإسلام السياسي أدت ولا زالت تؤدي دوراً أساسياً على المسرح السياسي في المنطقة العربية ، ولا أدل على ذلك من أن السياسة في ثلاثة العقود الأخيرة لم تستطع التعبير عن نفسها بمعزل عن الدين تماهياً كلياً أو توظيفاً جزئياً. فقد ساهمت هذه الحركات مساهمات استنهاضية, كما ناءت المجتمعات العربية بأحمال تصرفات غير راشدة منها.

- إن التركيز على ضرورة المحافظة على الأصالة في خطاب الإسلام السياسي يعتبر مساهمة مهمة في تجديد الوعي الذاتي لدى الأمة(الهوية).
- يمتلك الخطاب الإسلامي قدرة فائقة على التعبئة الجماهيرية وذلك ما ترك بصمة واضحة في المعارك الوطنية ومقاومة المحتلين.
- دخول الحركات الإسلامية في معترك الديمقراطية ، أضافت ثراءً للتجارب الديمقراطية ونضجاً سياسياً.
- بروز حركات الإسلام السياسي كحركات ممانعة أدى إلى تحرير الدين من قبضة الأنظمة السياسية التي أعادت صياغته ليكون أداة لتطويع الناس أمام الأمر الواقع وهذه مساهمة مهمة في إعادة صياغة العلاقة بين السياسة والدين.
- كانت ولازالت نشاطات حركات الإسلام السياسي تخلق حالة من عدم الاستقرار في مجتمعاتها بسبب دورها المؤثر وعجزها عن حسم الصراع لصالحها مع عجز خصومها عن تحييد دورها.
- شعور القوة والتمكن وربما الغطرسة لدى بعض قيادات هذه الحركة وخطابهم التصعيدي زاد من خوف النخب الحاكمة وزرع القناعة لديهم بأن استقرار نظمهم السياسية ومستقبلها مرهون بقدرتهم على مواجهة الظاهرة الإسلامية المتنامية.
- المناوشات بين هذه الحركات والقوى العالمية العظمى خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية ألقت بالكثير من الثقل والتبعات على مسيرة هذه الحركات واستقرار مجتمعاتها.
- فشل هذه الحركات في إقناع النخب النافذة في مجتمعاتها والرأي العام الدولي ببراءتها من الآليات والوسائل الدموية التي استخدمتها الحركات الجهادية وغموض خطابها في هذا الشأن أعطى انطباعاً بأنها تحاول الاستفادة شعبياً من حصيلة المواجهة بين النظم السياسية والتنظيمات الجهادية.
- طغيان هوس السلطة والتغيير من الأعلى لدى بعض قيادات الإسلام السياسي أشغلهم عن استغلال مواردهم وقدراتهم الإنسانية والفكرية الضخمة في بناء قاعدة شعبية صلبة تركز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تهم المواطن. إن هذا الصراع في سبيل السلطة أنضج بلا شك تجاربهم السياسية إلا انه زرع بذور عدم الاستقرار في مجتمعاتهم وفي المنطقة بشكل عام.
- أخيراً, العودة القوية لأدبيات التيار الجهادي التكفيري حيث تقييد الاجتهاد وإعادة التنظير للدولة الدينية (الثيوقراطية)؛ كان له دور كبير في انتشار العنف في المجتمعات العربية.

لقد كانت نشأة الحركات الإسلامية ردة فعل على أزمة كانت تريد الخروج منها وأحدثت أزمة أخرى بوجودها وعجزها عن تحقيق الحسم فأثمر ذلك حالة من عدم الاستقرار في مجتمعاتها، لم تكن تلك أزمتها لوحدها بل هي أزمة عامة ولكنها شكلت محور الأزمة بسبب موقعها المرموق ودورها المؤثر.
إن من واجب الحركات الإسلامية التعريف عن نفسها تعريفاً صحيحاً يوضح حدود علاقتها بالإسلام ، تلك العلاقة المصنوعة لخدمة السياسة حتى لا يتوهم التماهي ويتم تحميل الإسلام كعقيدة أوزار أفعال غير راشدة لا يستبعد أن تصدر في غمرة الانغماس في معارك السياسة وحتى يبقى معنى الإسلام كعقيدة جامعة بدلاً من تحريفه إلى إيديولوجيا تعمّق الفرقة والشقاق.

في مجتمعنا السعودي,

لم تكن هذه الأزمة حاضرة في ذهنية الخطاب الإسلامي مع دخول المملكة في فضاء التنمية بنفس الحدة والوضوح بحيث تستدعي شعوراً بالخطر, وذلك يرجع إلى أن الدولة تتولى حماية الدين ودعمه من خلال أجهزتها الرسمية. وبالرغم من ذلك فقد كانت هناك محاولات لجلب هذه الأزمة وإعادة إنتاجها من خلال الربط بين الخطاب الإسلامي خارج المملكة وداخلها إما من قبل الإسلاميين أنفسهم, أو من قبل خصومهم وهدفهم في ذلك تحقيق أهداف سياسية لحظية.
لا يعني هذا أننا ندعي خلو الخطاب الديني من البعد السياسي؛ لكن نؤكد أن مبادئ هذا الخطاب أقل في صرامتها منها في نظيره من الخطابات خارج المملكة, ومرجع ذلك إلى اختلاف البيئة ونوعية التحديات. لقد أدى استيراد هذه الأزمة إلى خلق حالة من الارتباك والاحتقان غير المبرر على المستوى الاجتماعي؛ ووجه ذلك أن النظام يتبنى رؤية تحديثية تنموية وهو مع ذلك يؤكد على الهوية الدينية, ومطالبات الخطاب الإسلامي لا تعدو أن تكون صيانة لهذا التوجه وترشيداً له.



مصادر ومراجع:
- مجموعة مؤلفين, الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية).
- عبد الإله بلقزيز, الإسلام والسياسة (المركز الثقافي العربي)
- محمد جابر الأنصاري, الفكر العربي وصراع الأضداد (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).
- محمد جابر الأنصاري, تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي (عالم المعرفة).
- عبد الله الخريجي, علم الاجتماع الديني
- إبراهيم أعراب, الإسلام السياسي والحداثة (أفريقيا الشرق - المغرب)
- عادل ظاهر, أولية العقل؛ نقد أطروحات الإسلام السياسي (دار أمواج)
- عبد العزيز الخضر, السعودية سيرة دولة ومجتمع (الشبكة العربية للأبحاث والنشر)


----------------

نقد ( الإسلام السياسي)

ملاحظات على ورقة اثر حركات الإسلام السياسي ,,



بعد التحية للجميع ..كنت أتمنى لو تسنت لي الفرصة للحضور لورقة الأخ عبدالله الضويان , حول أثر حركات الإسلام السياسي , وإذ لم أجد فرصة لذلك فهذه مداخلة ..أطرح فيها بعض الملاحظات على ورقة الزميل الكريم ..



قال الأخ الكريم : (أدى التدهور الذي أصاب الأمة الإسلامية في بدايات القرن الماضي ابتداءً من المواجهات العسكرية مع القوى الأوربية الصاعدة ثم تراجع الدولة العثمانية حتى انهيارها ووقوع غالبية الدول الإسلامية تحت الاستعمار, إلى تسرب الشعور بالضعف والتخلف وبرز السؤال الذي بدا ملحاً وواضحاً في تلك المرحلة وهو السؤال عن سبب هذا التخلف وسبيل الخلاص ).



وثمة إشكال هنا , لماذا لم يتسرب الشعور بالضعف , والتخلف ..قبل هذا التدهور , والانهيار ..الذي كان مظهرا بارزا , من مظاهر التخلف والرجعية ..ذلك أن الاستعمار لم يكن سببا للتخلف , بقدر ما كان نتيجة له ..ولولا هذا التخلف , والانهيار ,ما تهاوى ( رجل أوربا المريض) , ووقعت الدول الإسلامية تحت الاستعمار ..ما هي البنى الفكرية التي ساهمت قبل الاستعمار , في تهاوي المجتمعات الإسلامية ؟! ..إنها مع الأسف ذات البنى التي تنطلق لاحقا من حلها السحري ( الإسلام هو الحل) ..واستجداء الغيب , والركون إلى الماضي , لحل مشكلات العصر , ومعطيات الواقع الجديد , والمتحرك ...إن كل الدول المستعمرة _ بكسر الميم_ هي دول كافرة , بينما الدول المستعمرة _ بفتح الميم_ مسلمة ..وسواء كان الإسلام يتجلى بأبهى صوره , أو بأقلها بهاء ..إلا أنها دول إسلامية , مقارنة بغيرها ..ولم يكن هذا الإسلام لهذه الدول على اختلاف درجته , مانعا لها من الاستعمار ..فأين دور ( الإسلام هو الحل) ..ولو كان الإسلام حلاً , كيف تقدمت الدول الكافرة بدونه ؟! ..وتخلفت المسلمة به , بغض النظر عن درجة تمثلها له ..إذ أن مقولة ( الإسلام هو الحل) ..يعطي صورة مشوشة عن طبيعة هذا ( الإسلام) الذي هو ( الحل) ..فعن أي إسلام نتحدث ؟! , طالما أن البلدان الإسلامية على اختلاف ( إسلامها) تشددا وتيسراً , ظاهرية ومقاصداً , كلها ( متخلفة) , ومستعمرة ؟! ..



كتب الأخ الكريم : (من نافل القول أن الإسلام واحد، حيث لا يجوز الحديث عن إسلامات متعددة، غير أن استقلاله وتفرده لا ينفي تعدد أفهام المتلقين ولا يلغي حقهم في الاجتهاد في حدود النصوص ذات الدلالة غير القطعية, ومن هذا المنطلق تفرع الفقه إلى مذاهب والجماعة المسلمة إلى تيارات و فرق. إن هذا الغياب للوحدة الفكرية لهو دليل واضح على أننا لا نتعامل مع النصوص بل مع آراء متلقيها ).



ما هو ضابط ( القطعية) في النص ؟! بل كيف علم الكاتب أن ماهو ذو دلالة قطعية , لا يجوز فيه الاجتهاد ؟! ذلك أن معرفة أن ما هو ( قطعي) لا يجوز الاجتهاد معه , هو أمر "اجتهادي" , أو استدلالي ..وليس ضروري ..فلا يجمع العقلاء في كل ملة على قطعية هذا القطعي , وإنما هو ( قطعي) نتيجة سلوك ( استنباطي) و ( استدلالي) ..كذلك ما هو ( قطعي ) حينما يستدل به في سياق "ظرفي" , يفقد ( قطعيته) ليكون "ظنياً" , لان تحويله من نص "مجرد" مقتطع من سياقه , إلى نص يقع ضمن سياق وحادثة معينة , وتحقيق مناطه ضمن هذا الظرف..هو أمر ( اجتهادي) ..ومثاله : قطع يد السارق , فهذا حكم قطعي , ولكن إنزاله على حالة معينة , يكون حكماً ( نسبياً) , وهذا ما فعله عمر بن الخطاب ..كذلك القطعي في هذا يرتبط بمقصد , وهو الردع والنهي , لا مجرد ( التشويه) في قطع اليد ..والسؤال : إذا تبين أن دور الإصلاح , والتقويم السيكولوجي , والأخلاقي (للص) يرده عن ارتكاب "السرقة" فهل في هذا تعارض مع ( قطعية المقصد) للنص نفسه ؟! ...إن ما هو (قطعي) لا يحدد إلا اجتهاداً , كذلك هو كنص إبتدائي يمكن وصفه ( بالقطعية) , ولكن دخوله في علاقة "ديالكتيكية" مع الواقع يحيله إلى نص "نسبي" , أو مقاصدي ..والنص المقاصدي نص "عقلي" تشترك به كل العقول في العالم ..ضمن إطار التحسين والتقبيح العقليين ..كذلك المدارس الإسلامية كالاشاعرة , والمعتزلة , وأهل السنة ..اختلفو على نصوص عقدية , ولم يكفر أيا من هذه الفرق الفرق الأخرى , ويخرجها من دائرة الإسلام , رغم أن الخلاف يتجاوز الفرعيات , إلى قضايا عقدية , أختلف الصحابة حولها ..





قال الأخ الكريم : (وفي نصوص القرآن والسنة تأكيد على مفاهيم من شأنها الإبقاء على صفائه وحمايته من الانحراف والاندثار، كالتركيز على العلم والتعلم والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والتوبة ومراجعة النفس وغيرها من المفاهيم التي ضمنت له الحياة في كل الظروف.)



هل ثمة دين في العالم , أو أي تجمع عقلاء في العالم ..لا يقول بذلك ؟! إذ لولا الأمر بالعلم , والتقدم , والأمر بالمعروف ..ما سادت الدول المستعمرة _ بكسر الميم_ على الدول المستعمرة _ بفتح الميم_ هل ثمة مجتمع بالعالم , على اختلاف عقيدته , لا يقول بالعلم , ولا يتمثل مجتمعه لقيم أخلاقية ؟!..إن هذه الأمور التي أتى بها الدين الإسلامي , هي موجودة في كل دين ..هي إدراك "عقلي" , يدركه كل عاقل في العالم ..تخصيص دين معين بها , يكذبه الواقع ..الذي يكشف عن تطور كثير من المجتمعات رغم كفرها ..وتخلف كثير من الدول الإسلامية ..كما في تقارير التنمية ..رغم القول بخصوصية هذه المجتمعات "الدينية" لأنها تنطلق من دين متجدد , ويحرص على التطور ..الدين نص مقدس , ومحايد ..وإنما العقل المتعاطي معه , هو الذي يحوله إلى نص فاعل ومتحرك , أو نص جامد .وهذا العقل , هو خارج سلطة الدين .. إذ ان معرفة البعد الأخلاقي للنص الديني , يستلزم معرفة أخلاقية سابقة على النص ..وإلى لو كانت القيمة الأخلاقية يشكلها النص , وقعنا في الدور وهو محال ..بمعنى , هل يمكن للنص الديني أن يأمر بما هو غير أخلاقي ؟! ..إن كان : لا ..كيف علمنا ذلك ؟! إذا قلنا : بالنص , وقعنا في ( الدور) , إذا كان بمرجعية أخلاقية "عقلية" , تحاكم النص ودلالته الأخلاقية , فهنا نقول بأمر "عقلي" يتجاوز النص ..



قال الأخ الكريم : (هل كانت علاقة موضوعية فرضتها شروط مرحلة تاريخية ما، والشروط التاريخية من شأنها التغير مما ينفي عن هذه العلاقة صف الثبات؟, أم أن العلاقة بينهما علاقة منطقية مفهومية بمعنى أن سياسة أحوال الناس جزء من جوهر الإسلام لا يتأثر بالأحوال والظروف؟ ) ..



هذا سؤال في غاية الخطورة , والأهمية ..وكنت أنتظر من الأخ الإجابة عليه ..ذلك أن أزمة الفكر والتاريخ الإسلامي , تكمن في تداخل "الديني" بالسياسي ..فلو تم التعاطي مع السياسة في سقيفة بني ساعدة , كشأن "دينوي" , لا ديني ..ما تفرعت كل هذه المذاهب العقدية داخل الإسلام , التي كانت تنطلق من موقف سياسي , تحول لاحقا , إثر التراكم الكمي , إلى تغير نوعي / عقدي ..إن الرسول لم يبين أمر السياسة , لأنه شأن دنيوي , ولو كان "ديني" , ما مات إلا وقد بينه ..ولكن السياسة شأن "مدني" صرف , يحكم بمحددات , وسياقات الواقع الجديد , والمتغير ..



قال الأخ الكريم : (فالبنية الثقافية الدينية للمجتمعات العربية من أهم خصائصها الاستمرارية, والقدرة على تجديد نفسها وتنشيط فاعليتها، فالعقل الإسلامي يقر بالتطور والتحول ويعتبره ناموساً في الوجود، ويؤكد على مشروعية الاجتهاد وضرورته خارج إطار النصوص القطعية الثابتة التي تمثل جوهراً مطلقاً ذا إلزامية لا محدودة ويفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد في الفروع التي يندرج تحتها ما يتعلق بالمعاملات ).



كيف تكون البنية الثقافية متجددة , وهي أسيرة الماضي ومقولاته ؟! وهي أسيرة الماضي ومذاهبه ؟! بل لو كانت ثقافة متجددة , ومتطورة ..كيف تهاوت أمام الاستعمار ؟! ..كيف لثقافة دينية متجددة ..أن لا تستطيع الخروج من ربقة التقليد , واجترار مقولات الأئمة السابقين ؟! كيف لثقافة متجددة , تبقى على ما يقرره الماوردي , وأبو يعلى , فيما يتعلق بالسياسة الشرعية ؟! ..كيف منذ معاوية وحتى اليوم , لم يحسم الموقف من سلطة الشعب والسياسي ..بل إن الشعب ليس إلا "رعية" _ كذا_ وكما يقرر الفقهاء أن العقد السياسي والديني مثل عقد ولي الفتاة , والزوج ..والشعب هم "الفتاة" ليس لهم من الأمر شيء ؟! ..البنية الدينية هي بنية غير قابلة للتجديد مع الأسف , ولو كانت كذلك ..ما كان هذا وضعها اليوم ..بل القول أنها متجددة , ومتطورة ثم تعرضت للتهاوي , يعني أن لدينا مشكلة في تعريف التطور , والتجدد ..! وإن قلنا أن هذه القابلية للتطور هي في (النص) ولكن الإشكال في المسلم ( المتعاطي معه) ..نسأل : لو كان التجديد في ذات النص , لماذا لم يحرك "النص" المسلم لاستخراج مكنونه المتجدد ؟! ..إن القول باكتناز النص , وقابليته للتجديد .. وبعدم قدرة المسلم على تفعيل دوره في قراءة النص , يؤكد ما نقوله عن أسبقية وأولية "العقل" , الذي يتحرك ليحرك معه ( النص) لا أن نضع العربة أمام الحصان , فيتحرك النص ليحرك العقل القارئ له !! ..



نقل الأخ الكريم : (وذلك من خلال استعارته للطهرانية الدينية في السياسة فيبدو خطاباً أخلاقياً على مستوى من العفة, وهو يجسد الواقعية السياسية في صورتها

الجلية على صعيد الدين فيقنع جمهوره أن الإيمان ليس محض عقائد والتزامات مع الخالق فحسب بل فعل إنقاذ لأحكام الدين في الدنيا, يغذي ذلك ويقويه شمولية الفكرة الإسلامية مجال المصالح والمنافع ومجال العلاقة بين المخلوقين. ووجه هذا الاحتكار أن فرص المنافسة معه ضعيفة وباهتة بسبب انقطاع الصلة بين سائر الخطابات السياسية وبين مجال الرمز الديني ) ..!



السياسة تقوم على المتغير , والمصلحي , وليست منظومة أخلاقية "دينية" ..كذلك (الدين) يمكن أن يستخدمه السياسي في الاستبداد , أو يستخدمه في العدل ..وسيجد في ( النص) ما يسعفه لكلا هذين الخيارين ..والدين يستخدمه (الخارجي) في القتل , والتفجير ..و ( السلطاني) في تبرير الحاكم , وهكذا يقبل الدين القراءة والقراءة المضادة ..بل حتى الصحابة الذين شهدوا التنزيل , تقاتلوا , واستحل بعضهم دماء بعض , أنطلاقا من ذات ( النص) ..فالنص هنا موضوع إشكال ..من يفهمه ؟! وكيف نؤكد أن فهم هذا أحق من فهم ذاك ؟! فإن قلنا : بالعودة إلى ( النص) فهذه مصادرة على المطلوب ..إذ أن هذه العودة (للنص) إمام تقدم قراءة ثالثة , أو تؤكد أحد هاتين القراءتين ..والسؤال : ما الذي يجعل القراءة الثالثة , أو المؤكدة , حجة على غيرها ..طالما أن ( جدل النص) نفسه لم يحسم ..؟! ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة , يقول له إذا أتيت قوما فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تعلم أتصيب فيهم حكم الله أم لا ..وإنما أنزلهم على حكمك ..فكل تناول (بشري) للنص , يلغي عصمة ( النص) , ولا يتوسل بنقضه أنطلاقاً من (النص) نفسه ..لتعددية وضدية قراءات هذا ( النص) , الذي يكمن إعجازه في سعته وثراءه اللغوي , والتأويلي ..





يقول الأخ : (ويضيف محللون مزية أخرى تتعلق ببساطة الخطاب الإسلامي حيث هو امتداد للمدرسة الحنبلية التي جسدتها أفكار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واستعادتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي من أهم سمات خطابها أنه بدوي تبسيطي يتغلغل في الوعي الشعبي بسرعة وأنه استمد بعده الفكري من خلال تفاعل البيئات الحضرية معه (مصر على سبيل المثال).



التغلغل في مصر , نتيجة الدعم المادي الكبير , للفكر الوهابي ..وإلا هو "فكر" معادي للتطوير , وللنهضة ..وهو فكر بسيط وساذج في تعاطيه مع معطيات ومتغيرات وتعقيدات العصر ..





كتب الأخ الكريم : (- النص والعقل يسيران في اتجاه واحد، وإذا اشتبه التعارض كان النص أولاً ومن ذلك يتفرع المبدأ الثاني.

2- لا اجتهاد في مقابل النص ،إذ كيف يقوم الاجتهاد الظني مقام النص القطعي.

3- الإسلام دين و دولة, ولا يجوز الفصل بين جانبيه الاعتقادي والعملي المتعلق بسياسة أحوال الناس (تطبيق الشريعة الإسلامية).

4- لا تعارض بين قيام دولة إسلامية وبين الديمقراطية في بعض جوانبها.)



بالنسبة للنقطة الأولى : كيف علمت أن النص يقدم على العقل في حال التعارض بينهما ؟! كيف تفهم دلالة (النص) على التعارض ؟! لا يمكن أن تقدم (النص) لأن أي حجة تستخدمها لتقديم (النص) هي حجة عقلية ابتداء ..!





النقطة الثانية : كيف علمت هذه القاعدة ؟! أنه ( لا اجتهاد مع النص) ؟! إلا بالاجتهاد , لأن هذه قاعدة استدلالية , وليست ضرورية ...ما هو النص ( القطعي) ؟! الحكم القطعي يعتبر ابتداء , ودون تفاعله مع ظرفيته , نص (قطعي) على دلالته , لكن تحقيق مناطه , ودخوله في علاقة تفاعلية مع الواقع يحوله إلى نص ( نسبي) و ( اجتهادي) ..



النقطة الثالثة : دين ودولة ..والعطف يقتضي التغاير ..وكونك توجد علاقة بينهما , هذا دليل أنهم متغايران ! ..والجانب العملي لا علاقة له بالجانب الأعتقادي ..وإلا حكمت بالكفر على المسلمين الذين يمارسون عقائدهم بحرية , في المجتمعات العلمانية ..لأن الترابط بين العقدي , والعملي عندك , ترابط ضروري ..!



النقطة الرابعة : ما هو دليل عدم هذا التعارض ؟! وبالنسبة لفهم من ؟! وما حجة من لا يرى التعارض , على من يرى التعارض ؟!!



كتب الأخ : (لا يختلف الخطاب السياسي الإسلامي كثيراً في القواعد والمقدمات عن غيره من الخطابات السياسية في العالم العربي؛ فهو خطاب دعوي تبشيري تحريضي، غير أن هناك من السمات ما تبدو أكثر بروزاً لديه:

- هو خطاب تبسيطي يميل إلى التواصل السهل مع جمهوره ويساعده في ذلك رمزيته الدينية التي لا ينافسه فيها غيره، ووقوفه في الغالب موقف المعارضة وذلك يكسبه المصداقية المطلوبة.

- التفاعل مع الحداثة ايجابياً وإن بدا ظاهراً أنه يتعامل مع الحداثة بشيء من الحذر المشوب بالرفض.

-اختياره للصبغة الإسلامية كمنطق خطابي بدلاً من منطق الفعالية المجردة وذلك جعله نافذاً في مجتمع مصطبغ بالصبغة الدينية ) .



1_ كذلك خطاب ( شعر القلطة) خطاب تبسيطي , وسهل للجمهور .!

2- هل المعارضة تمثل "المصداقية" دوماً؟! ..

3- ماذا أضافت هذه الحركات للحداثة من ناحية إيجابية ؟!

4- حتى خصوم الحركات الإسلامية من الإسلاميين التقليديين , ينطلقون من صبغة دينية , في مجتمعات لها ذات الصبغة ..! فما الذي يجعل بعضهم حجة على بعض ؟!



يقول الأخ الكريم : ( أنها تحتكم لقيم المجتمع السائدة, وتركز على صيانة هذه القيم وتقويم الانحرافات عنها.

- أن دورها يصب في إطار تقوية الأسس التي تقوم عليها هذه المجتمعات وتعضيد بنيتها القيمية ونسيجها الاجتماعي.)



كيف يجوز لها تقويم وتقديل القيم , ولا يجوز ذلك لغيرها ؟! تحرير العبيد , وزواج الصغيرات , والتفاوت الطبقي , والعرقي , سمات المجتمعات المسلمة ..وهذه قيم تم تقويمها انطلاقا من اعتبارات أخلاقية أكثر من كونها دينية , كتحرير العبيد , الذي قاده أبراهم لينكون ..! وكما ذكرنا سابقا الاعتبار الأخلاقي , سابق (للنص) . وهو الذي حدد أخلاقية ( النص) ..





مع كل التحايا ,,



الحميدي العبيسان ,,



------------



قرأت ملحوظات أخينا د الحميدي ، في رسالة رقم ( 194) ، وكم تمنيت أنه موجود يوم أن طرحت الورقة

ليثري النقاش بمداخلته ، و كانت مداخلته المكتوبة هنا ثرية جدا - مع تحفظي على

بعض ما طرح - ولست هنا بصدد ذكر كل ما اختلف معه فيه ، لكن لفت نظري نقطتان :
النقطة الأول : قوله ((ما هو ضابط ( القطعية) في النص ؟! بل كيف علم الكاتب أن ماهو ذو دلالة قطعية , لا يجوز فيه الاجتهاد ؟! ذلك أن معرفة أن ما هو ( قطعي) لا يجوز الاجتهاد معه , هو أمر "اجتهادي" , أو استدلالي ..وليس ضروري ..فلا يجمع العقلاء في كل ملة على قطعية هذا القطعي , وإنما هو ( قطعي) نتيجة سلوك ( استنباطي) و ( استدلالي) ..كذلك ما هو ( قطعي ) حينما يستدل به في سياق "ظرفي" , يفقد ( قطعيته) ليكون "ظنياً" )) ،

ومحصل كلام الدكتور هنا تحويل الدين كله إلى أمر نسبي ظني ، وهو هنا يناقض العقل ، أي أنه يدعو لأمر غير عقلاني إطلاقا ، فكل دين يقوم على قطعيات متفق على قطعيتها يستحيل عقلا أن يبقى وصف ( الدين ) صادقا عليه من دونها ، فقطعية وجود رسول للدين ووجود إله مرسل لهذا الرسول ، وقطعية وجود أركان لا يتم وصف الدين بدونها ، أمر عقلاني لا يمكن إنكاره ، وهذه الثلاثة وتعيينها إنما يكون بالنص ، فتعيين الرسالة لمحمد صلى الله وسلم ، وتعيين أركان الإسلام وصفاتها إنما مصدره النص لا العقل ؛ إذ العقل يُجِّوز نفيها لمن لا يؤمن بالأديان كلها ، ويجوز إثبات الرسالة لغير محمد وإثبات أركان أخرى للإسلام لمن هو مؤمن غير ملحد ، وكل باحث تجاهها بين أمرين :

الأمر الأول : أن يسلم أنها قطعيات في الإسلام لا يجوز الخلاف فيها ، والاجتهاد فيها ، وأن كل مسلم مهما كان مذهبه ( سنيا أو شيعيا أو أباضيا أو زيديا أو معتزليا .. إلخ ) مؤمن بها وليس هناك خلاف ألبتة فيها ، وهنا فهو يسلم بمبدأ وجود ( القطعي ) في الدين وأنه متفق عليه لا يجوز الخلاف حوله إطلاقا ، وبهذا تبطل نظريته بنسبية الآراء الدينية كلها ، وتبطل نظريته بأن الحاكمية في كل شيء في الدين للعقل ، ولابد أن يسلم أن للنص مجالا في إثبات قطعية بعض مبادىء الدين

الأمر الثاني : ألا يسلم بقطعية ماذكرته ( وجود الله ، وصحة رسالة الرسول ، وأركان الدين ) فتكون عنده ظنية خاضعة للاجتهاد والنفي ،إذ الظني قابل للثبوت ، وقابل للنفي وهنا يكون الدين كله برمته ظنيا ، ، وهنا ينتفي وجود الدين أصلا ؛ إذ لا وجود لدين كله ظني قابل للنفي .

يبقى الاختلاف في مساحة ( القطعي ) أمرا قابلا للاجتهاد فقد يتوسع بعض السلفيين في القطعيات حتى يدخلوا فيها ما هو ظني ، وقد ينفي بعض من يرى أنه عقلاني ما أجمع على قطعيته ( إجماعا حقيقيا ) .

ولو أن الدكتور حدد مساحة الظني بما ليس من أركان الإسلام والإيمان وما ليس عباديا محضا ( إذ العبادة لا عمل للعقل فيها باتفاق العقلاء ، فالإيمان بها مصدره النص ولا شيء غير النص تشريعا من حيث مبدأ التكليف ، ومن حيث صفات العبادة (( كالصلاة وعدد أركانها والصوم ووصفه والحج والاعتكاف .. إلخ )) لو فعل الدكتور ذلك لكانت وجهة نظره قابلة للمناقشة ، أما أن يقرر أن العقل حاكم على كل النصوص فهي نظرة غير عقلانية أبدا

النقطة الثانية : قال الأستاذ الضويان (( النص والعقل يسيران في اتجاه واحد، وإذا اشتبه التعارض كان النص أولاً.) علق عليه الدكتور الحميدي بقوله (( كيف علمت أن النص يقدم على العقل في حال التعارض بينهما ؟! كيف تفهم دلالة (النص) على التعارض ؟! لا يمكن أن تقدم (النص) لأن أي حجة تستخدمها لتقديم (النص) هي حجة عقلية ابتداء )) أ هـ


قلت :نحن هنا بين قولين قول الضويان بتقديم النص دائما ( تقريبا وإن كان عاد وقال كيف نقدم الاجتهاد الظني على النص القطعي ) ، وقول الحميدي بتقديم العقل دائما ، والطريف أن هذا الخلاف بين الزميلين الفاضلين هو الخلاف الذي شغل الأمة منذ القرن الثالث الهجري إلى الآن ، وقد نظَّر الرازي لوجوب تقديم العقل ، ونظَّر متقدمو أهل الحديث لتقديم النص وكلا القولين خطأ ، وطرح ابن تيمية نظرية رائعة في هذا وهي : إذا وجد تعارض بين العقل والنص فلا يخلو التعارض من أربع صور :

الصورة الأولى : أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص ظنية فهنا يجب تقديم دلالة العقل .

الصورة الثانية : أن تكون دلالة النص قطعية ودلالة العقل ظنية فهنا يجب تقديم دلالة النص كوجود الجن مثلا .



الصورة الثالثة : أن تكون دلالة العقل ودلالة النص كلاهما ظنية هنا يرجح أحدهما وهو ما كان له مرجح .

الصورة الرابعة : أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص قطعية وهذه مستحيلة الوجود أصلا ، قلت : لأن المسلم يؤمن أن القطعي من دلالات النصوص لا يمكن أن يناقض القطعي من دلالات العقول ، وغير المسلم يرى استحلالة وجود قطعي يخالف دلالة العقل القطعية ،لكن المسلم هنا لا يسلم بأن ما يذكره غير المسلم هو قطعي من حيث العقل ، بل يظل ظني الدلالة ، فمثلا لو ادعى غير المؤمن أن العقل يدل دلالة قطعية على استحالة البعث بعد الموت ، لم يسلم له المؤمن بهذا ، لأن الدلالة العقلية القطعية لا يختلف العقلاء في قطعية دلالتها ومثل ذلك فقطعيات الدين المتفق على قطعيتها دينيا كإثبات وجود الخالق وإثبات الرسالة لا يمكن إثبات قطعية استحالة وجودها من الناحية العقلية .



ما الإشكال الذي نعاني منه اليوم وعانت منه الأمة سابقا ؟

الإشكال هو عدم (( حصر )) قطعيات الدين المجمع على قطعيتها فهناك قطعيات متفق عليها كأركان الإسلام ، وأركان الإيمان ، وحرمة الكبائر المجمع على حرمتها،وغيرها ، فدلالة النص على مثل هذا قطعية بإجماع كل المذاهب الإسلامية ، لكن يبقى الإشكال في أن كل مذهب ديني يؤمن بقطعيات لا تتفق معه بقية الفرق على قطعيتها ؛ فمذهب أهل الحديث والحنابلة ( ما يسمى اليوم بالمذهب السلفي ) يرى أن دلالة النص على العلو لله من القطعيات، والمذهب الشيعي يرى دلالة النص على الإمامة من القطعيات ، والمذهب المعتزلي يرى دلالة النص على نفي الصفات عن الله تنزيها له من القطعيات ، وهكذا ، ولعل أجمل ما في مذهب أهل الحديث أن المحققين منهم كابن تيمية لا يكفرون من لا يتفق معهم على الإيمان بقطعية دلالة بعض النصوص كدلالة آيات الصفات ، بل يبقونهم في دائرة الإسلام مع النظر إليهم على أنهم مبتدعة ، هذا من حيث التأصيل لكن من حيث التطبيق والممارسة يحصل تعد كبير في هذا .



نختم بإعادة التذكير بالنقطتين :

- نفي القطعية عن كل دلالات النصوص في الإسلام قول غير عقلاني إطلاقا .



- خطأ القول بتقديم النص إذا عارض العقل مطلقا ، وخطأ القول بتقديم العقل مطلقا .



أشكر الدكتور الحميدي على إثراء النقاش حول الورقة



د سليمان الضحيان



-------------

قال الدكتور الضحيان : (ومحصل كلام الدكتور هنا تحويل الدين كله إلى أمر نسبي ظني ، وهو هنا يناقض العقل ،

أي أنه يدعو لأمر غير عقلاني إطلاقا ، فكل دين يقوم على قطعيات متفق على قطعيتها

يستحيل عقلا أن يبقى وصف ( الدين ) صادقا عليه من دونها ، فقطعية وجود رسول

للدين ووجود إله مرسل لهذا الرسول ، وقطعية وجود أركان لا يتم وصف الدين بدونها

، أمر عقلاني لا يمكن إنكاره ، وهذه الثلاثة وتعيينها إنما يكون بالنص ، فتعيين

الرسالة لمحمد صلى الله وسلم ، وتعيين أركان الإسلام وصفاتها إنما مصدره النص لا

العقل ؛ إذ العقل يُجِّوز نفيها لمن لا يؤمن بالأديان كلها ، ويجوز إثبات

الرسالة

لغير محمد وإثبات أركان أخرى للإسلام لمن هو مؤمن غير ملحد ، وكل باحث تجاهها بين

أمرين :



الأمر الأول

:



أن يسلم أنها قطعيات في

الإسلام لا يجوز الخلاف فيها ، والاجتهاد فيها ، وأن كل مسلم مهما كان مذهبه

( سنيا أو شيعيا أو أباضيا أو زيديا أو معتزليا .. إلخ ) مؤمن بها وليس هناك خلاف

ألبتة فيها ، وهنا فهو يسلم بمبدأ وجود ( القطعي ) في الدين وأنه متفق عليه لا

يجوز الخلاف حوله إطلاقا ، وبهذا تبطل نظريته بنسبية الآراء الدينية كلها ، وتبطل

نظريته بأن الحاكمية في كل شيء في الدين للعقل ، ولابد أن يسلم أن للنص مجالا

في إثبات قطعية بعض مبادىء الدين )



كيف علمت يا دكتور أن : (كل دين يقوم على قطعيات متفق على قطعيتها ) ..لا أظنك ستقول علمت ذلك من ( النص) فهذه مصادرة على المطلوب , لأن (النص) الذي يفيد القطعية , يحتاج إلى دليل (عقلي) يثبت عصمته , و قطعيته ..وما ذكرته أنت من أن (العقل) نفسه يقر بذلك ..وبالتالي تقديم العقل هنا أمر ضروري , لتحديد ما هو "قطعي" , لا سيما أن تحديد ما هو (قطعي) أمر استدلالي لا ضروري ..كذلك , هل (قطعية ) وجود الرسول علمت بالنص أم بالعقل ؟! ..إن كان ب(النص) كيف دل النص عليها أصلا ؟! بكل يكف علمت أن مصدر (النص) إلهي ؟! دون مرجعية العقل ابتداءً ؟! وفهم دلالته على هذا (الوجود للرسول ) وعلى وجود (القطعيات) ؟!..



يا دكتور , كيف علمت أن النص الذي نص على نبوة محمد نص (قطعي) ومن الله ؟! هل هو من (النص) نفسه , أم أمر عقلي ..يدرك أن لكل شيء موجد , وأن الله لا يعطي المعجزة الكذاب , ولا يفعل القبيح ..فدل ذلك ابتداء على أن هذا النص من الله , وهذا الرجل المؤيد بالمعجزة نبي , وبالتالي تم التسليم بما هو "قطعي" في ما حمله هذا الرسول , انطلاقا من (العقل) ..!



تقول يا دكتور : (قطعيات في الإسلام لا يجوز الخلاف فيها ) ..كيف علمت ذلك ؟! كيف فهمت أن دلالة (النص) الذي تسلم له , لا تجيز الخلاف في ذلك ؟! إن قلت : بالنص مصادرة ..إن قلت : بالعقل ..فهذا ما نقوله ..



القطعيات الدينية , يسلم بها , لان (العقل) أقر بقطعية (النص) ..أقر بوجود الخالق (عقلا) و بالمعجزة ( عقلا) , وأن الله لا يعطي المعجزة الكذاب ( عقلا) ..وبالتالي : فما هو في هذا (النص) الذي ثبت مصدره (عقلياً) , من (القطعيات) يسلم بها ..





قال الدكتور : (الأمر الثاني

: ألا يسلم بقطعية ماذكرته

( وجود الله ، وصحة رسالة الرسول ، وأركان

الدين ) فتكون عنده ظنية خاضعة للاجتهاد والنفي ،إذ الظني قابل للثبوت ، وقابل

للنفي وهنا يكون الدين كله برمته ظنيا ، ، وهنا ينتفي وجود الدين أصلا ؛ إذ لا

( وجود لدين كله ظني قابل للنفي)



يا دكتور هل علمت ( وجود الله) بالعقل أم بالنص ؟! ..إن كان بالعقل فهذا ما نريد ..إن كان بالنص , كيف علمت أن هذا النص من الله ؟! هل ستقول من النص نفسه ؟! سندخل هنا في (دور) والدور محال ..



قال الدكتور : ( ولو أن الدكتور حدد



(مساحة الظني بما ليس من أركان الإسلام والإيمان وما ليس عباديا محضا إذ العبادة

لا عمل للعقل فيها باتفاق العقلاء ، فالإيمان بها مصدره النص ولا شيء غير النص

تشريعا من حيث مبدأ التكليف ، ومن حيث صفات العبادة (( كالصلاة وعدد أركانها

والصوم ووصفه والحج والاعتكاف .. إلخ )) لو فعل الدكتور ذلك لكانت وجهة

نظره قابلة للمناقشة ، أما أن يقرر أن العقل حاكم على كل النصوص فهي

نظرة غير غير عقلانية أبدا )



يا دكتور لقد قلت في ردي في الموضوع الأول : (كذلك ما هو ( قطعي ( حينما يستدل به في سياق "ظرفي" , يفقد ( قطعيته) ليكون "ظنياً) ..وما يدخل في السياق (الظرفي) ليس من قبيل العبادات , وإنما من قبيل المعاملات , وهذه قرينة في غاية الوضوح ..كما لا ينفي أن مصدر التسليم ب(القطعيات) هو لثبوت مصدرها الإلهي بالعقل , الذي اثبت عصمة (النص) , و ( النبي) الحامل له ..



قال الدكتور : (وطرح ابن تيمية نظرية رائعة في هذا وهي : إذا وجد تعارض بين العقل والنص فلا يخلو التعارض من أربع صور :

الصورة الأولى : أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص ظنية فهنا يجب تقديم دلالة العقل .

الصورة الثانية : أن تكون دلالة النص قطعية ودلالة العقل ظنية فهنا يجب تقديم دلالة النص كوجود الجن مثلا .



الصورة الثالثة : أن تكون دلالة العقل ودلالة النص كلاهما ظنية هنا يرجح أحدهما وهو ما كان له مرجح .

الصورة الرابعة : أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص قطعية وهذه مستحيلة الوجود أصلا ، قلت : لأن المسلم يؤمن أن القطعي من دلالات النصوص لا يمكن أن يناقض القطعي من دلالات العقول ، وغير المسلم يرى استحلالة وجود قطعي يخالف دلالة العقل القطعية ،لكن المسلم هنا لا يسلم بأن ما يذكره غير المسلم هو قطعي من حيث العقل ، بل يظل ظني الدلالة ، فمثلا لو ادعى غير المؤمن أن العقل يدل دلالة قطعية على استحالة البعث بعد الموت ، لم يسلم له المؤمن بهذا ، لأن الدلالة العقلية القطعية لا يختلف العقلاء في قطعية دلالتها ومثل ذلك فقطعيات الدين المتفق على قطعيتها دينيا كإثبات وجود الخالق وإثبات الرسالة لا يمكن إثبات قطعية استحالة وجودها من الناحية العقلية ).



هذه من فذلكات ابن تيمية ..فهو يقول : (إذا وجد تعارض بين العقل والنص ) .. جميل كيف يوجد / ويكشف التعارض بين النص والعقل إلا بالعقل نفسه , الذي كشف عن وجود الأشكال التي سيتم ذكرها تبعاً ..

أولا في قوله : (أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص ظنية فهنا يجب تقديم دلالة العقل ) ..من يحدد كون دلالة العقل ( قطعية) أو (ظنية) , وكذلك (النص) ليرجح بينهما , إلا ( العقل) ..! بل إن كل كلام أبن تيمية في هذه الفقرات هو استدلالي (عقلي) في التعامل مع التعارض (النصي/القطعي) ..



كذلك في الحالة الثانية : (أن تكون دلالة النص قطعية ودلالة العقل ظنية فهنا يجب تقديم دلالة النص كوجود الجن مثلا) ..كيف أوجب أبن تيمية تقديم دلالة (النصي القطعي ) على ( العقلي الظني) إلا بالعقل (القطعي) , كذلك وجود ( الجن) ليست من المحالات ..إلا عند الحسي , وهو ليس مذهب عقلي ..فوجود الجن ثبت ب(النص) , الذي أثبت العقل أنه من الله , فسلم بوجود "الجن" لذلك ..ولا يتعارض هذا التسليم مع (العقل) مطلقاً ..إلا إذا اختصر العقل في (المحسوسات) ..



كذلك في الحالة الثالثة : (أن تكون دلالة العقل ودلالة النص كلاهما ظنية هنا يرجح أحدهما وهو ما كان له مرجح) ..كيف علمت (ظنية النص) و (ظنية العقل) إلا بالعقل , وهو المرجح بينهما ..!



كذلك في الحالة الرابعة : (أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص قطعية وهذه مستحيلة الوجود أصلا ، قلت : لأن المسلم يؤمن أن القطعي من دلالات النصوص لا يمكن أن يناقض القطعي من دلالات العقول ، وغير المسلم يرى استحلالة وجود قطعي يخالف دلالة العقل القطعية ،لكن المسلم هنا لا يسلم بأن ما يذكره غير المسلم هو قطعي من حيث العقل ، بل يظل ظني الدلالة ، فمثلا لو ادعى غير المؤمن أن العقل يدل دلالة قطعية على استحالة البعث بعد الموت ، لم يسلم له المؤمن بهذا ، لأن الدلالة العقلية القطعية لا يختلف العقلاء في قطعية دلالتها ومثل ذلك فقطعيات الدين المتفق على قطعيتها دينيا كإثبات وجود الخالق وإثبات الرسالة لا يمكن إثبات قطعية استحالة وجودها من الناحية العقلية ) ..



كيف علم ابن تيمية أنه لا يمكن : (أن تكون دلالة العقل قطعية ودلالة النص قطعية وهذه مستحيلة الوجود أصلا ؟! ) إلا بالعقل نفسه , لاسيما أنه أحال إلى العقلاء : (لأن الدلالة العقلية القطعية لا يختلف العقلاء في قطعية دلالتها ومثل ذلك فقطعيات الدين المتفق على قطعيتها دينيا كإثبات وجود الخالق وإثبات الرسالة لا يمكن إثبات قطعية استحالة وجودها من الناحية العقلية ) إذن هو اثبت "القطعية العقلية" بنفي وجود "قطعية عقلية" تنفيها ..! إذن هو يقدم (العقل) .وكل هذه المقاربات هي مقاربات ( عقلية) ..



ودمتم



الحميدي ..

--------------

في البداية أحب أن أشكر الزميل الحميدي العبيسان على قراءته للورقة باهتمام, ثم على مداخلته الثرية التي وددت لو أنها كانت في حلقة النقاش لتضيف ثراءً إلى الموضوع المطروح ولكن قدر الله وما شاء فعل. وكذلك قرأت بكثير من الاغتباط مداخلة الدكتور سليمان الضحيان والنقاش الذي أثارته وأحب أن أعلق فيما يخصني وأعتذر عن التأخر لعدم تواجدي قريباً من الجهاز.



مقدمة لا بد منها:



لم أكن أهدف إطلاقاً من خلال طرحي لهذه الورقة التبشير بحركات الإسلام السياسي والتأكيد على ثوابتها ومسلماتها كما فهم البعض,وشوّش ذلك عليهم فكانت مداخلاتهم منصبة على نقد طروحات الإسلام السياسي بشكل مركز أكثر من اتجاهها إلى نقد القراءة لأثرها على المجتمعات العربية. أوافق على كثير من النقاط التي أثيرت في نقد الحركات وأخالف في بعض ولكن ذلك كله لم يكن موضوعي. لقد كنت أحاول إثارة بعض الأسئلة حول الأثر المحوري الذي لعبته هذه الحركات إن سلباً وإن إيجاباً؛ وما أبرز مظاهر هذا الأثر؟ ما هي جذوره؟ ما العوامل الداخلية والخارجية التي غذت ذاك الأثر أو كبحت من حدة ذاك؟ وهل يمكن الاستفادة من هذه القراءة في نقد الخطاب الإسلامي السعودي؟ أؤمن بتقازم طرحي أمام هذه الأسئلة ولكني أراها أسئلة مستفزة لعقول متوقدة تضمها حلقتنا النقاشية وذلك ما كان ولله الحمد, واحتوت الورقة الكثير من الإشكالات التي تجاوزت معالجتها لأن ذلك لا يخدم موضوع الورقة وهي في نفس الوقت مادة مهمة يمكن أن تكون موضوع ورقات قادمة.



بالنسبة لما ذكر الأخ الحميدي حول شعار: "الإسلام هو الحل" ونقده له, والأسئلة التي أثارها شيء نتفق أنا وإياه فيه في معظمه ولكن الذي نتفق فيه بشكل مؤكد وتفصيلي هو أن هذه الحركات استخدمت هذا الشعار إبان أزمة الهوية التي تولدت من الشعور بالضعف والتخلف, وكنت أقصد من ذلك أن أقول أن نشأة هذه الحركات كانت ردة فعل على أزمة ولم أقصد بذلك التسويق لهذا الشعار الذي وجد لخدمة السياسة لا لخدمة الإسلام.



أما النصوص قطعية الدلالة فلا أزيد على ما ذكر الدكتور سليمان الضحيان, فقد قال وأجاد ولا أجاريه في هذا الجانب, غير أن التدخل البشري في تنزيل الحكم على واقعة معينة لا ينفي عن النص صفة القطعية بل ينفيها عن الاجتهاد حال تناوله لهذا النص, وهذا فرق مهم. إذ نتفق أنا وإياك في فهم آية السرقة بأنها تدل قطعاً على أن السارق تقطع يده ولكن نختلف في تطبيق ذلك على الحالات المختلفة ومن ذلك عام الرمادة من خلال إعمال نصوص أخرى في توجيه الحكم لا توجيه المعنى. فالنص بقي على دلالته من دون تحريف أما الفهم والتطبيق فهو محل اخذ ورد كونه جهداً بشرياً غير معصوم حتى إن صدر من خليفة راشد بحجم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وأرى أن نقاش الأخ الحميدي للدكتور الضحيان يخلط بين دور العقل في إثبات قطعية النص ودوره في فهم النص بعد ثبوت قطعيته ففي العملية الأولى يكون مؤداه التصديق بأن هذا النص قطعي بغض النظر عن محتواه وفي العملية الثانية يحاول العقل فهم محتوى النص ليتم العمل والتسليم. فسلطة النص على العقل سلطة فرضها العقل نفسه وهذا نسميه الإيمان بالنص. ففي إطار الإيمان يجب على العقل ألا يطغى على النص بعد أن ثبت له قطعيته وإلا شكك في قطعيته وهذا تناقض.



ثم يذكر الأخ الكريم في معرض اعتراضه على أوصاف الإسلام التي زعمتُ بأنها أبقت على صفائه وحمته من الاندثار بأن تخصيص دين معين بهذه الأوصاف يكذبه الواقع, وأنا أوافق؛ وليس في كلامي ما ينفي هذه الصفات عن غيره ولا أملك أن أطلق حكماً كهذا لمحدودية اطلاعي على غيره من الأديان, ولكني أثبت هذه الأوصاف للإسلام ومن شأنها أن تبقي على صفائه وتمنحه صفة التجدد وتبقيه عصياً على التقادم. ويذكر الأخ العزيز بأن معرفة البعد الأخلاقي للنص الديني, يستلزم معرفة أخلاقية سابقة على النص وهذا صحيح لغير المؤمنين بهذا النص الذين لا يؤمنون بالنص بشكل تسليمي ويحتاجون معه لمعيار يقيس مدى أخلاقية ما يأمر به, أما مجال دراستنا (المجتمعات العربية) وهي مجتمعات مسلمة ترى في النص شيئاً سماوياً يلزم التسليم له والإذعان وإن بدا للعقل المحدود أن ما يأمر به غير أخلاقي. إذ النص هو معيار الأخلاق لا العكس بوصفه تجسيداً للكمال المطلق في كل شيء – عند المؤمنين به على الأقل - .

ناقش الأخ الحبيب ماطرحته على أنه مبادئ عامة لطرح حركات الإسلام السياسي, وهي مبادئ لم أكن أبين فيها رأياً بل كنت أحكيها عن حركات الإسلام السياسي ونقدها مادة دسمة لورقة يمكن أن تطرح في حلقتنا الفكرية, ثم عرج على سمات هذا الخطاب وطرح بعض الإشكالات:

1_ كذلك خطاب ( شعر القلطة) خطاب تبسيطي , وسهل للجمهور .!

هذا صحيح ولذلك له رواج شعبي كبير جداً ولكنه يفتقد هالة القداسة وإلا لكان أكثر اكتساحاً من حركات الإسلام السياسي J

2- هل المعارضة تمثل "المصداقية" دوماً؟! ..

في الوعي الشعبي العربي الذي يعاني من ويلات الأنظمة, في الغالب: نعم.

3- ماذا أضافت هذه الحركات للحداثة من ناحية إيجابية ؟!

كنت أقول بأنها تفاعلت إيجابياً مع الحداثة فاستخدمت الوسائل الحديثة لتحقيق أهدافها وإن بدا في أدبياتها الحذر مشوباً بالرفض.

4- حتى خصوم الحركات الإسلامية من الإسلاميين التقليديين , ينطلقون من صبغة دينية , في مجتمعات لها ذات الصبغة ..! فما الذي يجعل بعضهم حجة على بعض ؟!

ليس بعضهم بحجة على بعض بل كلهم يلقى رواجاً شعبياً لأن خطابه ينطلق من صبغة إسلامية. ولكن حديثنا مقتصر على الخطاب السياسي والمنطلقات الدينية شعبياً مقدمة على المنطلقات العقلية وليس في كلامنا هذا أي أحكام قيمية بل محاولة لتشخيص الواقع لا غير.



أما سؤال الإسلام والسياسة فقد كانت إجابتي واضحة يوم حلقة النقاش وهي مخبأة في ثنايا ما نقلت من كلام عبد الوهاب الأفندي وكيف أن التناول الاجتماعي للظاهرة الدينية ينظر إليها بوصفها داءً يصيب المجتمعات يجب أن نبحث أسباب تفشيه وسبل علاجه, وذلك منطلق من مسلمة: أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين, وهذه المسلمة لم تخضع للتدقيق والنقد اللازم, ولذلك واجهت هذه الدراسات معضلة الصحوة بكثير من الذهول إذ كانت هذه النظرة المسبقة تراهن على أن التحديث سيقود إلى العلمنة؛ بينما ترجمت المجتمعات العربية ذلك بصحوة دينية مما يدل على أن الإسلام ليس مصادماً للتحديث, واقتران السياسة بجوهره لا تلبسها جموداً بقدر ما تمنحها بعداً أخلاقياً أدى إلى انتشار الإسلام في قرون شباب دولته.

أخيراً: كيف يجوز لها تقويم وتقديل القيم , ولا يجوز ذلك لغيرها ؟! تحرير العبيد , وزواج الصغيرات , والتفاوت الطبقي , والعرقي , سمات المجتمعات المسلمة ..وهذه قيم تم تقويمها انطلاقا من اعتبارات أخلاقية أكثر من كونها دينية , كتحرير العبيد , الذي قاده أبراهم لينكون ..! وكما ذكرنا سابقا الاعتبار الأخلاقي , سابق (للنص) . وهو الذي حدد أخلاقية ( النص) ..



لم أكن أمنحها حق تقويم القيم الاجتماعية دون غيرها بل كنت أحاول إيجاد مقارنة بينها وبين منظمات المجتمع المدني من حيث كونها تضع قيم المجتمع على طاولة البحث, وتمارس في حدودها المشروعة التغيير في المجتمع, أما أسبقية الأخلاق على النص فأختلف معك في ذلك وهو موضوع مهم يمكن أن يخصص له ورقة مستقلة.

مع شكري وتقديري

عبد الله

----------



الضحيان : لا خلاف كبير بيننا يا دكتور الحميدي



قرأت تعقيب الدكتور الفاضل الحميدي وأنا مغتبط بهذا الحوار ومسرور جدا به ، واكتشفت ألا خلاف كبير بيني وبينه على الحقيقة ؛ إذ اتضح أنه لا يخالف في تقديم النص في أمور العبادة المحضة ، وأن الالتباس الذي وقع من فهمي أنا ؛ إذ قال : ((كذلك ما هو ( قطعي ( حينما يستدل به في سياق "ظرفي" , يفقد ( قطعيته) ليكون "ظنياً) ..وما يدخل في السياق (الظرفي) ليس من قبيل العبادات , وإنما من قبيل المعاملات , وهذه قرينة في غاية الوضوح )) .



واتضح أيضا أن غالب الخلاف بيني وبينه إنما هو خلاف غير حقيقي ، وإنما هو في جهتي الكلام مني ومنه ، إذ هو يتحدث عن الإثبات العقلي ابتداء حيث قال : ((..كما لا ينفي أن مصدر التسليم ب(القطعيات) هو لثبوت مصدرها الإلهي بالعقل , الذي اثبت عصمة (النص) , و ( النبي) الحامل له )) ، وأنا أتفق معه إجمالا إلا أن ثمة نقطتينبقي فيخا الخلاف وهما :

أولا : تحدث أخونا د الحميدي عن أن طريق معرفة الأصول ( الله / الرسول / المعاد / الرسالة وأركانها ) إنما تكون بالعقل ، لأنها لو كانت بالنص لكانت مصادرة على المطلوب ، قلت : نعم أتفق معه على أن إثبات وجود الله ابتداء إنما يكون بالعقل ، ثم إثبات حاجة البشرية لرسول ولرسالة ومعرفة إنما يكون بالعقل أيضا ،

لكن تعيين شخص الرسول ، والرسالة وأركانها لا يمكن أن يكون بالعقل ؛ لأن العقل يجوِّز أن تكون الرسالة لأي شخص وبأي صفة ، وبأية أركان ؛ وإنما يكون بدليل من خارج العقل فتعيين الرسول يكون بمعجزات حسية خارقة ، أو بإخبارعن مغيبات ، وكلها أمور غير خاضعة للعقل. ( طبعا سيقول الدكتور كيف نعرف أنها معجزات أو أخبار غيبية إلا بالعقل ؟ ، طبعا هذه المعرفة لا تسمى عقلية لأن ما تسمى معرفة عقلية لابد أن يكون العقل مستقلا بها أي خارجه منه ومن تفكيره لكن إدراك الحسيات وغيرها تظل دليلا حسيا لا عقليا كما نص على ذلك الفلاسفة فمعرفة أن النار حارة محرقة ليست معرفة عقلية بل حسية ، وروية ثعبان موسى وإدراك أنه معجر أمر حسي مشاهد بالعين )

وتعيين أركان الدين لا يكون إلا بالنص فقط بعد تحقق الإيمان بالله المرسل ، والنبي المرسل ( لكن تعيين دلالة النص أمر عقلي كما سيأتي لا حقا في ( ثانيا ) )

هذا من حيث إثبات أصل الإيمان فإذا ثبتت الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم هنا يطرح السؤال : هل يقدم العقل على النص الذي جاء به الدين أو يقدم النص على العقل؟

وهي المسألة التي اشتهرت في التاريخ الإسلامي في علم الكلام ، بين المتكلمين من المعتزلة و الأشاعرة من جانب ، والحنابلة وأهل الحديث من جانب آخر ، حيث يبدأ الكلام فيها من فكرة ( أول واجب على العباد ) ، ففرق المسلمين مجمعون على أن أول واجب هو ( الشهادتين ) لكن يختلفون في طريقة معرفتها فأهل الحديث والحنابلة يقولون معرفتهما عن طريق النصوص الشرعية والفطرة ، والمتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة تكاد كلمتهم تجمع على أن أول واجب على العباد المكلفين هو ( النظر ) يقصدون بذلك النظر في الأدلة العقلية، ، وقال بعضهم القصد الى النظر وقال آخرون منهم إرادة النظر وقال بعضهم اعتقاد وجوب النظر ، ولبعضهم كلام طريف سبق به ديكارت إذ يرى أ أول واجب هو الشك في النظر ، وأذكر أننا أيام الطلب حفظنا قول السفاريني في منظومته ( وأول واجب على العبيد ... معرفة الإله بالتسديد ) وكان مشايخنا يعيبون على السفاريني قوله ( بالتسديد ) ؛ لأن محصله البحث في الأدلة العقلية ويبدلون كلمة ( التسديد ) بـ( التوحيد ) ، ومن وجهة نظري أن الخلاف في هذه المسألة هين ويسير، وأن الأمر راجع للمكلف ومدى يقينه وإدراكه ومعرفته .



ثانيا : لاحظت على الدكتور العزيز أنه في محاورته وفي نقده لكلام ابن تيمية ظل يتحدث عن عمل العقل في النظر بدلالة النص لا بالاحتجاج به في مقابلة العقل ، ولا أحد يعارض الدكتور في هذا ؛ إذ لا شك ولا ريب أن العقل مناط التكليف ، وعمل الفقيه كله هو عملية عقلية وبهذا الاعتبار ، فإن إدراك دلالة النصوص الشرعية عمل عقلي لا أحد ينازع فيه ؛ إذ من لا عقل له ليس بمكلف أصلا فضلا عن أن يكون مجتهدا ، والنص من دون إعمال العقل فيه صامت غير ناطق ، فاستشهاد الفقيه مثلا بالنص المنقول على وجوب الصلاة هو عمل عقلي إذ معرفة دلالة النص على الحكم هو دلالة عقلية ، وقد وجدت أخينا الدكتور الحميدي في رؤيته لتقديم العقل على النص ينطلق من هذه الرؤية ، ولا أحد يخالف الدكتور في هذا إطلاقا .

وقد اتفق الأصوليون على أن ( القطعية ) في النصوص لها جهتان

الجهة الأولى : قطعية الثبوت

الجهة الثانية : قطعية الدلالة

فالنصوص بالنظر إلى ذلك لها أربع صور :

1- نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت كقوله تعالى ( محمد رسول الله )

2- نص قطعي الثبوت ظني الدلالة كقوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء )؛ فهو قطعي الثبوت إذ هو من القرآن، لكن دلالته ظنية إذ دلالة القرء مختلف فيها بين الحيض والطهر .

3- نص قطعي الدلالة ظني الثبوت كقوله صلى لله عليه وسلم (( إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا )) إذ دلالة الحديث ومعناه واضح قطعي الدلالة على المراد لكن الحديث غير ثابت ، ولو ثبت فهو غير متواتر .

4- نص ظني الثبوت ظني الدلالة كقول الرسول (( لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب )) ، إذ الحديث ليس متواترا ، ومعناه غير قطعي إذ يحتمل نفي الصحة ، ونفي الكمال .

ولا يسمى النص قطعيا إلا إذا توفرت فيه جهتا القطعية ( الثبوت و الدلالة ) ، نستخلص من كل هذا أنه لا أحد يخالفك في أن تحقيق دلالة الحديث هل هي ظنية أو قطعية ؟ إنما هي عملية عقلية من إعمال عقل الفقيه ، وليس هذا محل إشكال فهذا متفق عليه لا يخالفك فيه لا حنبلي ولا غيره . لكن الإشكال هنا الذي يجب أن يبحث هو : إذا ثبت قطعية دلالة النص على معنى من المعاني مثل قوله تعالى (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )) ، - فهذه الآية قطعية الثبوت وقطعية الدلالة - ثم عارض تلك الدلالة العقل كأن يرى أحد الفقهاء أن العقل اليوم يرجح ترك القطع لمصلحة يراها ، فهنا أيهما نقدم : دلالة الآية القطعية أو دلالة العقل ؟



إلا إن كنت ترى أن دلالة مثل هذه الآية على ( القطع ) ليست قطعية بل ظنية لأن عمل الفقيه اجتهاد في معرفة الدلالة ، أي أنك تخالف إجماع الصحابة وفعل الرسول وإجماع فقهاء كل المذاهب في تلك الدلالة ، وترى إجماعهم على معناها ليس دليلا على قطعيته ، وهنا يرد إشكال آخر وهو ما ضابط الدلالة التي يؤخذ بها ؛ هل مجرد المعنى اللغوي ؟ فـ( القطع ) في اللغة من معانيه ( الترك ) فيكون معناها فاتركوا أيدهما

ثم على القول بالمعنى اللغوي هل يخضع المعنى لتغير الظروف فما كان دالا في القديم اليوم يمكن تجاوزه إلى معنى جديد ؟

، أو أن ضابط القطعية إجماع فهم الصحابة المعاصرين لوقت تنزيل النص والمخالطين لصاحب الرسالة ؟

وإذا أخذ برأيك - إن كنت تقول إنها ليست دلالة قطعية - فمعنى هذا جواز أن يقال إن دلالة النص على ركنية الصلاة والصوم والحج ليست قطعية بل ظنية ، لأن الحجة التي جوزنا بها رد دلالة قطعية النص على القطع في السرقة موجودة في دلالة النص على الزكاة والصلاة والحج ، والتفريق بينها تحكم غير علمي إطلاقا ، ومحصل هذا أن القطعية لا ضابط لها .

نعم يبقى الخروج من كل هذه الفذلكة والمتاهة أن يقال إن دلالتها على قطع اليد قطعية لكن لوجود مصلحة ما اليوم لا يفعَّل الحكم ، لأن أحكام المعاملات معلق على المصلحة فهذا القول - مع ما فيه - أهون من إلغاء الدلالة القطعية لأنها تؤصل لمنهج قوضوي وغير علمي إطلاقا في التعامل مع النصوص



ملحوظة مهمة

قانون تقديم العقل على النقل لدى المتكلمين إنما هو في نصوص الأخبار لا الأحكام ، أي النصوص التي تتحدث عن الله وصفاته ، والأنبياء والجن والملائكة ، والقصص والوقائع ، فالرازي طرح قانونا وهو : إذا تعارض العقل مع النقل قدم العقل ، إذ العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يؤول أو يفوض .

وابن تيمية له قانون آخر سبق أن أوردته في تعقيبي الأول

أما في مجال الأحكام فنجد أن الرازي صاحب القانون المذكور آنفا يرتب الأدلة في كتابه المحصول كما يصنع أهل الحديث ، ويقرر أنه لا يصار إلى القياس والاستصحاب وغيرها من الأدلة العقيلة إلا إذا عدم النقل .

ولم يطرح في التاريخ الإسلامي – فيما أعلم – رؤية متكاملة لتقديم العقل على النص في الأحكام ، وإنما كانت ممارسات من فقهاء مدرسة أهل الرأي وليس تقعيدا متكاملا ، وبعض الباحثين يعزو ذلك لقلة تمكن أهل الرأي من الحديث ، وعلى كل الأمر يحتاج إلى دراسة موسعة متزنة

أخيرا أشكر الصديق المبدع الحميدي على تعقيباته الثرية ، وعلى إثارته لمثل هذا الموضوع الثري .



د سليمان الضحيان

أنتهى الحوار ..




هناك تعليق واحد:

  1. كم يسعدني يادكتور قراءة ما تكتب

    أجد فيما تكتب تحليلا ذو نظرة شمولية للأمور والقضايا، كما يعجبني ربطك لما هو إنساني عام بما هو ديني، وكيف نستطيع الإبقاء على ما هو إسلامي يتفق عليه الجمبع، ونستفيد مما تقدمه الحداثة من فلسفة؛ وبذلك نستطيع مقاربة الواقع وتعديله.

    وأود أن أشير مؤكدة على كلامك، انه مادخل الدين في السياسة إلا وأفسد كل منهما الاخر، وهل يدخل الدين في السياسة إلا لتحقيق مآرب مقصودة!! وغايات منتظرة يسوغون لها باسم الدين فيؤدلجون العقول ويمهدون الطريق لما يريدون، حتى يكون حكمهم بأمر الله، ومن يخرج عن امر الله فأولئك هم الظالمون فيقتلونهم بأمر من الله كما يزعمون!! ولنا في حكم الدولة العباسية خير مثال جليّ، حتى أنهم أفسدوا كثيرا في الدين نفسه حتى غدا مشوها، علمناه وطيقناه كما أراد العباسيون لا كما أراد الله!! ألا ترى معي أنه بقدر ما يفسد الدين السياسة بقدر ما تفسد السياسة الدين وتشوهه؟!

    ممتنة لك وشاكرة، أرجو من كل قلبي أن تكون هكذا دائما.

    ردحذف