الخميس، 3 يونيو 2010

مساجلات حول الاختلاط

تعقيباً على مقال الحميدي العبيسان في العدد 25/6 بعنوان (نواقض أدلة تحريم الاختلاط كثيرة)

أقول: بل أدلة تحريم الاختلاط كثيرة متضافرة، وليس لها ناقض أو معارض من النصوص، وغاية ما تعلق به الكاتب ظواهر نصوص من السنة لو ضمها إلى ما يقابلها من النصوص الأخرى لاتضح له تحريم الاختلاط، وأؤكد هذا بالوقفات التالية:

الأولى: التكلف من غير دليل في تخصيص آية الحجاب (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب) بأمهات المؤمنين، والمعلوم من قواعد الشريعة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة لكل من تتوجه إليه من النساء، قال القرطبي رحمه الله: في الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن، إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجوداً في العرب فليس شيء منها مختصاً بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين، ولم يقل أحد من المسلمين أن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية" (مجموع فتاواه 9/14)

الثانية: استدل لجواز الاختلاط بأثر روي عن ابن عباس رضي الله عنه ما في سبب نزول قوله تعالى (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) قال: كانت امرأة تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم حسناء من أجمل الناس، فكان ناس يصلون في آخر الصفوف ينظرون إليها، فأنزل الله الآية"، والمعروف عند المحققين أن هذا الأثر لم يثبت عن ابن عباس بل الثابت عنه في تفسير الآية أن المراد بالمستقدمين: كل من هلك من لدن آدم عليه السلام، والمستأخرين: كل من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وأما الأثر فهو مرسل منكر المتن، فهو من رواية أبي الجوزاء، وهو تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال عنه الحافظ ابن حجر: يرسل كثيرا، وقال البخاري في التاريخ الكبير: في إسناده نظر، وقال ابن كثير: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقال القرطبي: الأثر يروى عن أبي الجوزاء ولم يذكر عن ابن عباس، وكذا قال الترمذي في جامعه. فعلى هذا لا يصح الاستدلال به في تقرير حكم شرعي، وهو بهذه المثابة من النكارة والضعف.

الثالثة: استدل أيضاً بقصة وضوء الرجال والنساء جميعاً، وبقصة أم صبية في وضوئها مع النبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد، وأجيب بأنهما قصتان محمولتان على ما قبل وجوب الحجاب، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، ولا يسوغ حملهما على ما بعد فرض الحجاب، لأنه ضرب للأدلة بعضها ببعض، ولاسيما أن أدلة تحريم الاختلاط تضافرت بعد الهجرة النبوية وهي متواترة، وأشير إلى شيء منها:

1- حديث أم سلمة عند البخاري قالت: كانت النساء إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه من الرجال" قال ابن شهاب، أحد رواة الحديث: إن مكثه لكي تنفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم" وقال ابن حجر: وفي الحديث اجتناب ما يفضي إلى المحذور، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت".


2- أنه صلى الله عليه وسلم نحى صفوف النساء عن الرجال في أطهر البقاع، بل في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) قال النووي رحمه الله: وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن عن مخالطة الرجال"، وفي يوم الفطر لما صلى بالناس صلاة العيد، وفرغ من خطبته، نزل عن منبره متكئاً على بلال حتى وصل إلى النساء ليعظهن" قال شارح الحديث ابن حجر: يشعر فعله هذا بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم".


3- تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده باباً للنساء، وقوله لأصحابه (لو تركنا هذا الباب للنساء) مع أن الأصل الاشتراك في ذلك، وهو نص واضح على منع الاختلاط.


4- فعل عائشة رضي الله عنها في الطواف، فقد كانت تطوف حجرة( أي متنحية) من الرجال لا تخالطهم، والقصة في صحيح البخاري.

5- من قواعد الشريعة: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فكل ما يفضي إلى المحارم فهو محرم، ولهذا حرم الله سب آلهة المشركين مع ما فيه من المصلحة.

ومعلوم ما يترتب على الاختلاط، وما يفضي إليه من المفاسد الكبيرة وهي واضحة في تلك المجتمعات التي وقعت في الاختلاط، ولا ينكرها إلا مكابر، فالمنصف من نفسه المتجرد للحق يجد التذمر والتحسر على انفلات المرأة وتفكك الأسر والمجتمع، والسعيد من وعظ بغيره، قال ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة".

فهد ابا بطين

----

بداية كنت أتمنى من الأخ "علي أبا بطين" - العدد 2481- أن يفند الأدلة بالأدلة بدلا من تفنيدها بأقوال من لا حجة في قولهم ذلك أنه لا حجة لأحد دون رسول الله.
قال الأخ: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).. ونقول: إن فهم السبب ضروري لفهم دلالة اللفظ، فاللفظ "قاعدة الفهم"، والسبب "قاعدة القياس"..وما ذكرناه في تفسير آية "الحجاب" متسق مع سياق اللفظ، وسببه، وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لها..أما من جهة اللفظ، فالضمير في قوله جل شأنه: (سألتموهن) عاد إلى نساء النبي،وهي قرينة "لغوية" على صرف اللفظ من "العام" إلى "الخاص".. والقول إن اللفظ لعامة النساء قول لا دليل عليه..أما الاحتجاج بآيات اللعان، والحرابة وغيرها فهو استدلال لا يصح، لوجود الفارق، وهو أن دلالة اللفظ "عامة" في تلك الآيات، فلا توجد قرينة لغوية، أو شرعية تخصص ذلك الحكم.كما أنها وردت مستقلة، لا مقترنة بسياق سابق - كقوله سبحانه: (لا تدخلوا بيوت النبي) -، ولاحق - كقوله جل شأنه: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) - كما هو في آية الحجاب..
وهذا متضح من سبب نزولها، فعن أنس رضي الله عنه قال: (لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون)..إلى أن قال: (فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي). وزاد مسلم في روايته: (وحجبن نساء النبي) (البخاري 10/146).. وليس عامة النساء!
وهكذا فهم "عمر" الآية، فأنكر على "سودة " خروجها، ولم ينكر على غيرها..و عن عمر رضي الله عنه قلت: (يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب.فأنزل الله آية الحجاب).. لم يقل لو أمرت "عامة النساء" وإنما أمهات المؤمنين!
و الرسول صلى الله عليه وسلم حينما خرج للمباهلة خرجت معه فاطمة، وهذا في السنة التاسعة بعد الحجاب. مما يؤكد خصوصية الحجاب بأزواج النبي دون بناته.. وهذا ما فهمته نساء الصحابة.. فقمن بالجهاد بعد آية الحجاب، بينما لم يرخص لنساء النبي به..كما ذكرت في الموضوع السابق.. ليس الجهاد فحسب، فقد روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم أن الصحابية ُسبَيْعَةَ بنت الحارث توفي عنها زوجها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح؟ وفي الحديث أنها أخبرت النبي عليه الصلاة والسلام، فأقرها ولم ينكر عليها تزيينها. فماذا يقول الأخ في هذا الحديث؟ وقد جاء في حجة الوداع، أي بعد نزول آية الحجاب بخمس سنين. قال ابن حجر في فتح الباري (9/475): "وفيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها". وفي رواية الأسود (مرسلة): "فتطيبت وتصنعت"". فقد اكتحلت وتطيبت واختضبت وتهيأت وتصنعت وتجمّلت، أي تزيّنت. وأبو السنابل ليس محرماً لها، بل هو ممن خطبها فلم ترضه!
الوقفة الثانية:
أولاً: إرسال جعفر بن سليمان، ومخالفته لنوح بن قيس لا تضره..فنوح "ثقة"، وزيادة الثقة مقبولة. قال أبو يعلى الخليلي في"الإرشاد" (1/163): (أن يروي الثقات حديثاً مرسلاً، وينفرد به ثقة مسنداً، فالمسند صحيح وحجة، ولا تضره علة الإرسال).. وبذلك يقول الترمذي "العلل" (6/253): (إذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك منه) أقول: كيف و"نوح بن قيس" أوثق من جعفر بن سليمان؟!..
ثانياً: أن لهذا الحديث شواهد عند الحاكم، والطبري، والسيوطي في الدر المنثور (4/97).
ثالثاً: لا حجة بقول ابن كثير. فلا توجد نكارة في المتن، إلا إذا كان يرى عصمة الصحابة فهذا أمر آخر..
الوقفة الثالثة: ما دليلك على أن القصتين قبل الحجاب؟!.
فالتخصيص لا يقوم إلا بدليل..ولا دليل هنا على هذا التخصيص..ولم يذكر ابن عمر راوي الحديث ذلك، مع وجوب "بيانه" إن كان فعلا قبل الحجاب..و لا يصح الاحتجاج بقول الجمهور..فقول الجمهور لا يخصص، على فرض أنه قول الجمهور فعلاً!
أما الأحاديث:
1- حديث أم سلمة لا يفيد تحريم الاختلاط..فلم ينكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - على من يخرج مباشرة بعد الصلاة، ولا على من تتأخر..كما لا يصح أن ينكر الاختلاط خارج المسجد، ويصح داخله.. وبذلك يتبين أن مكث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان تجنباً للازدحام.. ويشهد لذلك قوله: (لو تركنا هذا الباب للنساء).. فهذا إجراء لمنع "الازدحام" عند الباب، لا تحريم الاختلاط..!
2- تقدم الرد عليه في الموضوع الأول..
3- هذا نص يفيد "تجنب" الازدحام لا الاختلاط..فالحديث عن "بابٍ" هو مظنة للازدحام، لا عن "موضع" خاص بالنساء وقد ثبت به الاختلاط !
4- فعل عائشة دليل على خصوصية الحجاب بها.. ولا أظن أن "الأخ" سيجد نصاً لأي صحابية يفيد تحريم الاختلاط!
5- القول إن "الاختلاط" تترتب عليه مفاسد، هذا من القول بالرأي.ولا حجة فيه..و الشريعة أتت بسد الذرائع الموصلة إلى المحرم..من تحريم الخلوة، والنظر المحرم.. ونحو ذلك.. ولم نجد هذا يتكرر في أمر "الاختلاط".. والانحلال في بعض المجتمعات ليس سببه الاختلاط، كما أن الشذوذ في بعض المجتمعات ليس سببه عدم وجود الاختلاط (فقط).. فلا توجد ظاهرة اجتماعية لها سبب واحد.. أيضا القياس على الغرب قياس مع الفارق.. فهم محكومون بثقافة ونمط فكري وسلوكي واجتماعي مختلف تماما عما نعيشه.. فلا يصح القياس عليه البتة.. وقد أجاز أئمة المذاهب الاختلاط.. فالأحناف والظاهرية أجازوا للمرأة تولي القضاء "الْمُحلَّى" (8/528،مسألة:1805). وأجاز مالك أن تأكل المرأة مع غير محارمها "الموطأ" (2/935).. وأجاز الحنابلة أن تؤم المرأة الرجال في التراويح (الإنصاف 2/264).. و ذهب الطبري وأبوثور والمزني إلى جواز إمامتها إطلاقا (المجموع 4/52).



الحميدي العبيسان


________

قرأت رد الحميدي العبيسان على تعقيبي عليه حول مسألة الاختلاط باذلاً قصارى جهده في الانتصار لرأيه في إباحة الاختلاط وجواز سفور المرأة، وأعقب عليه بأن الجهد وحده من غير مستند لا يكفي لإثبات الأحكام، لأن الشريعة مبناها على الأدلة الصحيحة الصريحة، وأؤكد هذا بالوقفات الآتية:
الأولى: لقد تعسف الكاتب في تخصيص آية الحجاب (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب) بأمهات المؤمنين بدعوى أن الضمير فيها عائد إليهن، ولو تأمل علة الحكم في الآية وما ساق الله بعده من الآيات لاتضح له كيف زلت قدمه، فالله سبحانه لما أمر بسؤالهن من وراء حجاب أشار علة الحكم بمسلك الإيماء والتنبيه إلى عموم الحكم، فقال (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) إذ طهارة القلوب مطلوبة من عموم المسلمين لا من الصحابة وآمهات المؤمنين فحسب، فاتضح من عموم علة الحكم عموم الحكم لجميع النساء، ولو قلنا بتخصيصها بأمهات المؤمنين لعطلنا كثيراً من أحكام الشريعة، إذ غالب آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها.
ومن القرائن الدالة على عموم الحكم في الآية أن الله قال بعدها ( لا جناح عليهن في آبائهن...) فإن نفي الجناح استثناء من الأصل العام وهو فرض الحجاب ودعوى تخصيص الأصل تستلزم تخصيص الفرع، وهذا غير مسلم به إجماعاً لما علم من عموم نفي الجناح بخروج المرأة أمام محارمها غير محجبة الوجه والكفين، وما يؤكد العموم أيضاً قوله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) فالآية صريحة في وجوب الحجاب على عموم النساء، وهذا الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عنهن، فعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها)، وعن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن مروطهن فاختمرن بها) قال الحافظ ابن حجر: أي غطين وجوههن، وقال السيوطي: هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه.
ومما يدل من السنة حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال "رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.
الثانية: أجيب عن حديث سبيعة الذي استدل به الكاتب على عدم وجوب الحجاب، إذ ظن أنها تزينت للخطاب في الأسواق والطرقات، فأقول: لقد أساء الكاتب فهم النص، ولو تأمله لوجد أنه حجة عليه لا حجة له، فسبيعه رضي الله عنها صحابية جليلة روى عنها فقهاء المدينة، فحاشاها أن تخرج إلى الأسواق والطرقات متجملة سافرة الوجه طلباً للخطاب، ومن قال بهذا فقد نسب إليها ما لا يليق بها.
فغاية ما في الروايات عنها أنها كانت تتجمل داخل بيتها بعدما انقضت عدتها، وأبو السنابل قد رآها من جملة من رآها من الخطاب داخل بيتها، فروى النسائي في سننه أنها لما سئلت عما أفتاها به النبي صلى الله عليه وسلم في حملها أخبرت أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها فولدت، فلما تعلت من نفاسها دخل عليها أبو السنابل فرآها متجملة... وفي رواية البخاري: وكان أبو السنابل فيمن خطبها.
الثالثة: لقد قال الكاتب بمشروعية الجهاد لنساء الصحابة مستدلاً به على جواز الاختلاط، وأقول: إن خروج النساء في بعض الغزوات ليس للجهاد كما فهم الكاتب وإنما لمداواة الجرحى والقيام على حوائجهم، فعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار، فيسقين الماء ويداوين الجرحى "وعن أم عطية قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى "قال النووي في شرحه للحديثين: فيه خروج النساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة ونحوهما لمحارمهن وأزواجهن، وقال: وفي الأحاديث اختلاط النساء في الغزو برجالهن في حال القتال لسقي الماء ونحوه.
الرابعة: لقد قال الكاتب إن مكث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعد الصلاة حتى تخرج النساء من المسجد كان تجنباً للازدحام فقط، وأقول هذا مبلغ فهمك، وأما العلة الصحيحة فقد أشار إليها راوي الحديث ابن شهاب فقال: إن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم "وقال شارح الحديث ابن حجر: وفيه اجتناب ما يفضي إلى المحذور وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت "هذا علاوة على أنه صلى الله عليه وسلم خصص لهن باباً بالمسجد وقال "لا يلجن من هذا الباب من الرجال أحد" فهل كان هذا لأجل الازدحام، أم لئلا يخلطن بالرجال عند الأبواب وفي الطرقات؟
الخامسة: لقد تقول الكاتب على أئمة المذاهب الأربعة، فنسب إليهم القول بإباحة الاختلاط، وزاد على ذلك أن نقل عن الإمام مالك كلاماً مبتوراً للإيهام به، وأقول ما نسبه للأئمة من إباحة الاختلاط غير صحيح، بل المنقول عنهم التحذير منه بعبارات مجملة ومفصلة، وأما فتوى الإمام مالك فهي إجابة لسؤال عن المرأة تأكل مع غير ذي محرم، فقال: ليس بذلك بأس إذا كان على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال... ويكره للمرأة أن تخلو مع الرجل ليس بينهما حرمة.
فأين إجازة الإمام مالك للاختلاط في هذه الفتوى؟ وقد اشترط رحمه الله أن يكون جلوسها مع الرجال معروفاً لا يستنكر كأن تكون مع الأقارب أو الأرحام أو الأصهار ونحوهم بحضرة محارمها وهي متحجبة.
علي فهد أبا بطين

_______

رداً على علي أبا بطين في العدد 2490 والذي أوضح أن الشريعة مبنية على الأدلة الصريحة الصحيحة ولم يورد أدلته في مسألة تحريم الاختلاط، لي وقفات:
الأولى: أما آية الحجاب فقد بيناها بياناً واضحاً لا لبس فيه، فإذا قلنا إن على المرأة أن "تحتجب" حتى تتحقق بذلك "طهارة قلب الرجل"، فعلى الرجل أيضاً أن "يحتجب" حتى تتحقق "طهارة قلبها".. فعموم العلة "تحصيل طهارة القلب" يقتضي عموم الحكم "المخاطبة من وراء حجاب".. ولا يمكن غير ذلك أصلاً.. والاستثناء في قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن) هو من الاحتجاب الخاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فيجوز لهن كشف وجوههن وأيديهن لهؤلاء.. ولو قلنا إن الاستثناء لجميع النساء - كما ذهب الأخ - فهذا يعني أنه يحرم على المرأة أن تكشف "شعرها" لأبيها أو إخوانها.. وهذا قول "فاسد" باطل.. ولا أظن أن الأخ يقول به، وتبين بذلك أن "الأخ": (يقبل المقدمات ويرفض النتائج).!.. والدليل على خصوصية "الحجاب"،عدم "خصوصية" الجلباب،فبعد آية الجلباب التي فيها - "نصاً" - شمول الحكم بقوله: (ونساء المؤمنين) شقت النساء مروطهن فاختمرن بها.. وقول ابن حجر: فغطين وجوههن، لا يصح، فالخمار لا لغة، ولا عرفا، يغطي الوجه.. ونحن نسأل الأخ: إذا كان يُفهم الخطاب الموجه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم على أنه "لجميع النساء" فلِمَ جاء لفظ "ونساء المؤمنين"؟!.. فمجرد ذكر "نساء النبي" يكفي لأن "الحكم" عام؟!..بيد أن هذا لم يحدث.. ثم إذا افترضنا جدلا أن "الحجاب" عام لجميع النساء، فهو حكم "منسوخ" عن "عامة النساء" في سورة النور: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور:31).. فهنا خطاب لـ"عامة النساء" بأن يبدين زينتهن الظاهرة - "الوجه واليدين والقدمين" - ناسخاً آية الحجاب في سورة "الأحزاب" على فرض أنها "عامة" أصلا.. وآية النور - "الناسخة" - نزلت بعد حادثة الإفك، وآية الحجاب قبلها.. وبذلك قطع ابن حزم في جوامع السيرة (ص147) وابن القيم في زاد المعاد (3/265) وقاله إمام السير ابن إسحاق.
أما حديث أسماء، ففعلها ليس "بحجة"، ويشهد لذلك حديث فاطمة بنت المنذر "فلا تنكره" مما يدل على عدم وجوبه، فما كان موافقا للأصول لا ينكر على فاعله.. وهو هنا "السدل" فقط..
الثانية: أبو السنابل فهو لم يأت خاطباً بل زائراً: (ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر)..! وهنا تحقق الاختلاط في غير "طلب خطبة"، ثم على فرض أنه "خاطب" فالخطبة لا تحلل محرماً مما يعني جواز الاختلاط..!!
الثالثة: أما فهم "النووي" فليس بحجة.. وليتك تستشهد بالأدلة بدلاً من قول النووي المخالف لصريح الأدلة.. من ذلك ما ذكره ابن سعد في الطبقات، في ترجمة أم عمارة الأنصارية، عن عمر بن الخطاب: - رضي الله عنهما - أنه قال: لقد سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يقول: (ما التفَتُّ يميناً، ولا شمالاً - يوم أحد - إلاّ وأنا أراها تقاتلُ دوني).. فهذه صحابية "مقاتلة" لا مطببة لمحارمها..!.
ما روته الرُبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ - رضي الله عنها - قالت: (كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسقي القومَ، ونخدمُهم، ونردُّ القتلى إلى المدينة). وهذا اللفظ "القوم" عام يا أخي.. وأعجب من طريقتك في تخصيص العام، وتعميم "الخاص"..!.
وعن أنسٍ، عن أمِّ حرامٍ - رضي الله عنها - وهي خالةُ أنسٍ، قالت: (أتانا رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلّم - يوماً فقالَ عندنا، فاستيقظ وهو يضحكُ، فقلتُ: ما يضحكك يا رسولَ الله، بأبي أنت وأمي؟ قال: ناسٌ من أمتي يركبون البحرَ، (وفي رواية: ناس من أمتي عُرِضوا علَيّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر) كالملوكِ على الأسِرّة في سبيلِ الله، فقلتُ: ادعُ الله أن يجعلَني منهم، فقال: أنتِ منهم (وفي رواية: فدعا لها).
قالت: ثم نام، فاستيقظ - أيضاً - وهو يضحك، فسألتُه، فقال مثل مقالتِهِ. فقلت: ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: أنتِ من الأولِينَ. قال: فتزوجها عبادةُ بنُ الصامتِ بعدُ، فغزا البحرَ فحملها معه، فلما أن جاءت قُرِّبت لها بغلةٌ، فركبتْها، فصرعتْها، فاندقّتْ عنقُها). البخاري (6/ح:2877).
فهذه الصحابية تجاوزت ما تقدم عن الصحابيات السابقات، فتمنت على رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يدعو لها أن تركب البحر مجاهِدةً في سبيل الله - عزّ وجلّ - فلم يُنكر عليها، ولم يقل لها: إنك تُعَرّضين نفسك للفساد، وبيتُك خير لك، فقرّي في بيتِك، بل دعا لها، وبشّرها بهذه الأمنية.
الرابعة: نعم هذا تجنب للازدحام.. وإلا فكيف ينكر الاختلاط خارج المسجد ويصح داخله؟.. وقد ثبت الاختلاط ويشهد لذلك الحديث الصحيح الذي أوردناه عن ابن عباس وحديث سهل بن سعد في الصحيح.. ولم يُنكر على الخارجين مباشرة.. والترك النبوي لا يفيد التحريم.. وقول ابن شهاب هو مبلغ "فهمه" ومبلغ "تقليدك".. ولا يلزمنا فهمه بشيء.. فالرجال والنساء يتوضؤون مع بعضهم قبل الصلاة كما في الصحيح ولم تستطع أن ترده.. ويصلون مع بعضهم.. ويدعون بعضهم بعضاً فعن سهلٍ بنِ سعدٍ - رضي الله عنه - قال: (دعا أبو أُسَيْدٍ الساعديُّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وكانت امرأتُه يومئذ خادمَهم، وهي العروس، قال سهلٌ: أتدرون ما سقتْ رسولَ الله، صلّى الله عليه وسلّم؟ أنقعتْ له تمراتٍ من الليلِ، فلما أكل سقتْه). وفي رواية: (فما صنع لهم طعاماً، ولا قرّبه إليهم إلا امرأتُه أمُّ أُسَيْدٍ) البخاري (9/ح:5176،5182) وعنونه البخاري بـ(باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس)!. فهذه عروسٌ، في ليلةِ عرسِها تقدمُ لرسولِ الله - صلّى الله عليه وسلّم - وصحابته الطعام، وتقوم على خدمة من حضر وليمةَ عرسِها.
الخامسة: يكفي أن مالك أجاز أن تأكل مع غير ذي محرم.. وهنا تحقق الاختلاط مع غير المحارم وقوله: (على وجه ما يعرف أن المرأة أن تأكل معه).. يقال أيضاً عن عموم الاختلاط، فهي تختلط على وجه ما يعرف أن تختلط معه. قال الأخ: (ويكره أن تخلو مع الرجل ليس بينهما محرمة).. ونحن لا نختلف على الخلوة فليست "موضوعنا".. ففي نص الإمام مالك ما يفيد الاختلاط.. وفي الأدلة التي ذكرناها قبلا ولم تعقب عليها ما يدل على ذلك!.
الحميدي العبيسان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق